الاقتصاد في عصر العولمة هو الغاية وليس الوسيلة، مقولة قابلة للنقاش والتداول ولكن لا يمكن نفيها على الإطلاق أو تجاهل دعوات من يتخذون من ذلك الواقع ركيزة أساسية لطرح الآراء بشأن تدهور نوعية الثقافة بمفهومها الشامل وليس فقط الإنتاج الفكري بحيث أصبحت قائمة على الشكليات من منطلق حدوث اختزال في مفهوم النهضة في الشق الاقتصادي، والسياسي والمؤسسي دون غيره.
ونحن لا نسعي إلى تبني المفهوم الرومانتيكي للتحليل السياسي والاقتصادي إذا جاز التعبير، فنصنع للثقافة ضريحاً للبكاء على الأطلال، فمما لاشك فيه أن الوضع الثقافي على المستوى الدولي في مكانة لا يحسد عليها، ولكن بعض الحقائق من فرط ترديدها تصبح غير مجدية في النقاش وإن كان ذلك لا ينفي دلالتها على أرض الواقع.
تهدف الأسطر التالية إلى مناقشة كيفية توظيف المكون الثقافي في العلاقات السياسية الدولية، وكيف أن القيم تخدم الأهداف السياسية للدول الكبرى، بحيث يتم خلق حالة من الوهم العام الذي يتم من خلاله تكريس الأوضاع القائمة بين أطراف النظام الدولي المختلفة.
يستند أنصار هذا التوجه إلى حقيقة خالدة وهي أن هدم الأوهام السياسية والحياتية يؤدي إلى سد منابع الرجاء لدي الشعوب ويساعدها من باب آخر على تقبل الأوضاع السائدة والاقتناع بها من ناحية أخرى وهذا هو الأهم، ومن ثم فالجماعات البشرية ليست في ظمأ للحقائق وإنما للمبررات الحياتية التي تُعمق الوضع الراهن.
الثقافة أساس الهيمنة الدولية
تمهد السيطرة على ثقافات الشعوب بمعناها العام في عصر العولمة إلى خلق أرضية صلبة للسيطرة السياسية والاقتصادية، وهي على النقيض من التوجه السائد بأنها تستبدل ثقافة بأخرى، نجدها تسعى إلى نفي الثقافة في حد ذاتها، وخلق حالة من الانسحاب العقلي للوعي ليطفو اللاوعي على السطح.
ومن ثم تتشكل من خلاله نظرة استهلاكية تتقبل كل شيء سياسياً، اقتصادياً، اجتماعياً وذلك من خلال مخاطبة النزعات البدائية في الإنسان مثل: النفور من الجدية في المجالات العامة والخاصة، وتكريس النزعة المادية، إلى آخره.
من ثم فالهدف هو تدويل النظرة العامة للأشياء والمواقف القومية والشخصية، ليصبح كل شيء محتملاً ومقبولاً .
شارلي شابلن وخط التجميع
قدم شارلي شابلن تصوراً في أحد أفلامه للعامل الذي يقف أمام خط التجميع بالمصنع ليقوم بذات العمل على نحو يؤدي إلى إصابته بالخلل العقلي في النهاية، في نقد صريح للمجتمع الرأسمالي الصناعي.
كان ذلك في بداية القرن العشرين، ويحضرنا في هذا السياق تشبيه المفكر المصري الراحل جلال أمين لهذا الموقف المشار إليه مع وضع المستهلك الحالي أمام السلع الاستهلاكية التي يمر هو عليها في هذه الحالة بدلاً من أن يمر شريط خط التجميع أمام العامل، فالنزعة المادية واللا إنسانية واحدة رغم تبادل الأدوار.
إذن فالاقتصاد الدولي يوظف النزعات البدائية لدى المستهلك ليتمحور حول ذاته واحتياجاته البدائية فقط، ليصبح المجال العام دولياً ومحلياً في نظره وكأنه يدور في أحدى المجرات البعيدة “موضوع صالح لأحاديث عابرة سرعان ما تتبخر أمام الحياة اليومية” ولتغدو كل القيم السياسية والوطنية وكأنها تاريخ يثير الرثاء وليس الحنين.
نفي الثقافة كوسيلة للسيطرة
تشكل محاربة التوجهات الثقافية الجادة، والتوسع في التعليم الحقيقي، وبلورة الملكات العقلية على نحو واسع إحدى أبرز أدوات السياسة الخارجية للدول الكبرى لتشكيل العقول بعيداً عن صالح الفرد والمجتمع في آن واحد.
والتاريخ يشهد أيضاً أن الفكرة ذاتها أحياناً ما تم توظيفها في مجال السياسة الداخلية، فإذا ما تم محاربة الثقافة الجادة تصبح البيئة ممهدة للسيطرة، وعلى سبيل المثال لا الحصر تاريخياً: محاربة تجديد الأزهر الشريف إبان العهد الملكي في مصر خلال حقبة معينة عندما تقدم شيخ الأزهر وقتها محمد مصطفي المراغي بمقترح للتوسع في البعثات العلمية للأزهر وإدخال العلوم الحديثة للتدريس وليس الاقتصار فقط على العلوم الدينية التقليدية، تغير الوضع بعد ذلك بالطبع وفي العصر الملكي أيضاً لكن في مرحلة تاريخية أخري.
لكن كان هدف القصر من المعارضة سياسي وهو الرغبة في المحافظة على جمود الأزهر ليخدم السلطة السياسية ويكرس الأمر الواقع وليس مجالا رحباً تخرج منه العقول المستنيرة التي قد تتخذ في المستقبل مواقف معارضة للاستبداد السياسي في ذلك العهد البعيد من التاريخ.
وفي السياسة الدولية، نجد موقف الاحتلال الأمريكي للعراق من الثقافة والمكتبات والتصرف الموازي له في عصور أقدم داخل بغداد كذلك، خير دليل على أن الثقافة عدو للمحتل المباشر وغير المباشر لأنه بمحوها، يتم محو عنصر المقاومة النفسية والداخلية للشعوب.
مكونات السيطرة الثقافية لصالح سياسة القوى الكبرى
مما سبق يمكن القول إن هناك ستة مكونات للسيطرة الثقافية دشنتها القوى الكبرى لخدمة أهدافها السياسية والجيو ستراتيجية تتمثل في ما يلي:
1 ـ تكريس العلاقة بين المركز وبين الأطراف كجزء لا يتجزأ من المسلمات العقلية، ودعم التوزيع غير المتكافئ للسلطة الدولية لتحتكر جماعات معينة آليات تكثيف السلطة لصالحها، ويعزز ذلك التفوق الاقتصادي والعسكري للدول الكبرى في مواجهة الدول النامية التي يختلف الوضع بالنسبة لها بطبيعة الحال، وربما الصراع الذي يدور حوله الملف النووي الإيراني مثال من أمثلة رفض التفوق التكنولوجي والعسكري للدول من خارج “المركز” وعدم السماح للأطراف بالظهور السياسي والعسكري.
2 ـ تقوية مفهوم “التشابه أو التماثل”، كما حدث في تنميط الهياكل السياسية والتشريعية والتنظيمية للدول الحديثة ولا يختلف في ذلك الدول الكبرى والصغرى على حد سواء، إذ تحذو الأخيرة حذو الدول الكبرى دوماً في التصور والتنظيم العام لكل الجوانب المؤسسية والهيكلية.
3 ـ توظيف التكنولوجيا لتنميط العقول، مع إقصاء دور التطور العلمي والتكنولوجي عن المساهمة في إزالة الفوارق بين الشعوب، فمما لا شك فيه أن التقدم التكنولوجي والتطور في وسائل المعيشة أسهم في رفع سقف التوقعات للشعوب من المنظور الاقتصادي البحت بحيث تبلور العقل الجمعي على مبدأ وإن كان بديهيا مثل رفع مستويات المعيشة إلا أن التأكيد عليه على نحو فعال أدى إلى النظر للنواحي المعنوية والثقافية على أنه نوع من أنواع الترفيه، وإن وُجد فليكن “قشور يتساوى في معرفتها الجميع أو نسبة كبيرة من سكان العالم وتكون شبيهه بالمعلومات الدراسية التي يحفظها الطلاب جميعاً مع فارق أن عنصر الإجبار لا يتوافر في حالة التعامل مع وسائل التواصل ومواقع الإنترنت”.
وقد لاحظ الكاتب المصري توفيق الحكيم توظيف العلماء من خلال السياسة ليبتعدوا عما يحقق القفزة النوعية في تقليص التفاوت في مستويات المعيشة مثل: إنتاج الغذاء والزراعة وغيرها من الأمور الحيوية، بحيث تبقي الجهود العلمية بعيدة عن أساليب وآليات تؤدي إلى خلخلة الوضع القائم بين الدول الكبرى والصغرى.
4 ـ رفع لواء الاقتصاد وخفض رايات الهوية والقومية، فمما لاشك فيه أن عصر العولمة الكونية خلق فرصا وتحديات على كل الأصعدة جعلت الشعارات القديمة على مستوى العالم متشابهة من حيث إثارة النقد والسخرية في بعض الأحيان، بحيث أصبحت الأيديولوجيات ودعوات القومية والعروبة من كلاسيكيات السياسة الدولية، تجاوزها العصر مع الأخذ في الاعتبار أن الرأسمالية بمعناها المعاصر تخرج عن نطاق الأيديولوجيا لتدخل في نطاق الشعارات التي تحقق مصالح الدول الكبرى والقليل للدول النامية والأقل نمواً.
5 ـ توحيد المشكلات العالمية، والمثال الأشهر هو تقارير التنمية الإنسانية الصادرة عن المنظمات الدولية التي تقوم بتدويل القضايا وترتيب أولويات لفرضها على الشعوب كافة وكأنها من المسلمات.
6 ـ نشر الإيمان بمفهوم “حتمية التقدم”، وهو ما يساهم في إعطاء ترتيب راسخ وشديد الوضوح لمستويات الدول المختلفة، ويرى الكاتب الإنجليزي ألدوس هكسلي في هذا السياق أن المجتمع الحديث يؤدي إلى “التراجع” بكفاءة أكبر، فالكفاءة التي يحققها المجتمع التكنولوجي “كفاءة ميكانيكية بحتة”، ويمكن قبول ذلك الرأي في عصرنا الحاضر بالنظر إلى أن التقدم المعاصر الذي لا يمكن إنكاره قد واكبته عمليات منظمة لتفتيت النظام الإقليمي العربي في إطار تداعيات ثورات الربيع العربي في دول الجوار الإقليمي”، كما أن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها أن مسار الشعوب والمجتمعات يتشابه مع مسار الأفراد الذين يتقدمون في أشياء ويتأخرون في مجالات أخرى، فلا يوجد خط حتمي في التطور المرتبط بالطبيعة الإنسانية.
خاتمة
بناء على ما أعلاه يمكن القول إن الثقافة في السياسة الدولية هي إحدى أدوات التأثير تمارسها الدول الكبرى بفعالية لتكريس الوضع القائم، والمقصود هنا عدم الاقتصار على الإنتاج الثقافي بمعناه التقليدي إنما يمتد إلى صياغة نظرة المواطن الكوني لمجالات الحياة وموقعه منها على نحو لا يؤدي إلى تحفظات واسعة، وإن حدثت فهي لا تعدو أن تكون من قبيل الثورات النفسية عند البعض والتي لا يمتد أثرها إلى الخارج، وبالتالى فصياغة العقول هي من باب القوة الناعمة ولكن في وجهها غير المنشود القائم على الحوار والندية بين الشعوب.