مدخل
يُعد التوجه السياسي لرئيس الدولة أو القائد بمثابة مزيج من الرؤية العامة المستمدة من أهداف الدولة والعوامل الخارجية التي تؤثر في صنع القرار، وهو ما يعني أن الرؤية الفردية النابعة من القائد كإنسان يتسم بنظرة ذاتية تجاه نفسه وتجاه العالم تتحكم في قراراته، ويختلف ذلك تبعاً للمستوى الفكري والمؤثرات البيئية والثقافية التي تعرض لها الفرد “القائد” في خلال مراحل التنشئة السياسية التي مر بها وموقعه في النظام الاجتماعي للدولة.
يرتبط ما سبق بالتصورات الشعبية والأكاديمية التي تسود عند تغيير القيادة في الدول الكبرى والصغرى في آن واحد معا، والآمال التي تنعقد على ما هو جديد دوما في السياسة، ولا يستهان في هذا السياق بسيكولوجية الجماهير في الدول النامية والمتقدمة التي تتطلع دوما للمقبل في مجال السياسة وما يمكن أن يترتب على ذلك من آثار مستقبلية سياسية واقتصادية بالإضافة إلى التغيير المرتقب على مستوى السياسة الخارجية والعلاقات الدولية.
“
بوجه عام، ومن وحي دراسة العلوم السياسية ومختلف النظريات التي تفسر توجهات السلوك الدولي، يمكن القول إن ما كان يستلفت النظر دوما هو العلاقة ما بين المكون الفردي والمؤثرات الخارجية في تفسير مواقف الدول والقادة السياسيين.
“
ارتباطاً بما سبق، تشغل التغييرات في الرئاسة الأمريكية اهتمام الباحثين على مستوى العالم من خلال انتخاب الرئيس جو بايدن، من حيث تناول التغييرات المحتملة في مواقف الولايات المتحدة الامريكية تجاه الشرق الاوسط وايران وتحليلها، وإن كان التحليل القائم حاليا يُعد بمثابة بداية يُمكن البناء عليها في المستقبل بطبيعة الحالة، خاصة أن التكهنات الأولى لا تصمد في الكثير من الأحوال أمام الوقائع التي تظهرها الأحداث المتتالية على الساحة الدولية بمرور الوقت.
موقف بايدن من الاتفاق النووي الإيراني
ينتمي جو بايدن إلى الحزب الديمقراطي، وبناءً على ذلك عبر الكثير من المحللين عن الآراء التي تستند إلى الفوارق الأيديولوجية البديهية بين الحزب الجمهوري والديمقراطي، وانعكاسات ذلك على السياسة الأمريكية وتفاعلاتها مع الدول الأخرى، وفيما يخص إيران تراوحت التوقعات ما بين التفاؤل بالتوجه الجديد والرأي الذي يؤكد أن “ما بدأه ترامب سيُكمله بايدن”.
وجاء ذلك في سياق قيام بايدن بتوجيه رسالة إلى إيران أكد فيها استعداده للعودة إلى الاتفاق النووي، ووضع شروطاً لذلك، وأكد أن العودة للمفاوضات ستتناول كذلك تفكيك برامج الصواريخ الباليستية الإيرانية بالإضافة إلى إمكانية اشتراك دول أخرى في المفاوضات مثل السعودية والإمارات.
ويعني ما سبق وضع إيران وبرامجها النووية تحت الوصاية، وكذلك تمديد فترة القيود على أنشطة إيران لإنتاج المواد الانشطارية التي قد تستخدم في صنع أسلحة نووية، وأخيراً الحصول على التزام إيراني بوقف كل الدعم السياسي والعسكري والمالي للأذرع العسكرية الحليفة في اليمن ولبنان وسوريا والعراق وفلسطين، ومن ثم يُعتبر ذلك من وجهة نظر الكثيرين بمثابة شروط تعجيزية.
“
بالتالى يرى فريق من المتابعين للشأن الإيراني أنه سيكون من الصعب على الجناح الإيراني المتشدد أن يقبل بالشروط المشار إليها أو بعضها؛ لأن هذا يعني تقزيم الثورة الإيرانية وتحويلها إلى دُويلة منزوعة القوة والسيطرة.
“
كذلك يرى أصحاب هذا التوجه أن عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي طبقاً لوعود الرئيس الجديد قد تكون أشبه بالانسحاب من منطلق عدم جدية تحقيقها للطموحات الإيرانية.[1]
يرتبط ذلك بتمسك طهران بالاتفاقية النووية القديمة بينما يرى الغرب ضرورة وجود المزيد من الإضافات وتعديل الصيغة القديمة، وفي هذا الإطار سبق وأعلن الرئيس الإيراني حسن روحاني أن بلاده ستعود إلى العمل بالاتفاق النووي الجديد المعروف باسم “خطة العمل الشاملة المشتركة” بعد إعلان الولايات المتحدة الأمريكية التزامها هي الأخرى، كما أعلنت إيران أنها على استعداد للتفاوض فيما يخص علاقتها بدول الخليج فقط، وفي حالة استمرار الجدل حول هذه الأمور، فقد ينعكس ذلك بطبيعة الحال على مفاوضات الاتفاق النووي.[2]
من الجدير بالذكر في هذا المضمار أن بايدن عبر في إحدى المقابلات الصحفية عن تفهمه لمخاوف الدول الخليجية من عودة سياسة المهادنة التي اتبعتها إدارة أوباما سابقاً، والتي لم تُراع تحفظات الدول المشار إليها، وتجدر الإشارة إلى أن انتقاد تلك الدول لسياسة أوباما لم يكن قائما على رفض رفع العقوبات عن إيران مقابل تفتيش المنشآت النووية ولكن السبب الرئيس هو اعتراض تلك الدول على فكرة تجاهل المخاوف التي تساورها من المشروع الإيراني واستبعاد الدول المتضررة من هذا المشروع على نحو مباشر من المفاوضات مع طهران.[3]
الداخل الإيراني وردود الفعل على دعوة بايدن
تفاوتت ردود الفعل في إيران بشأن تصريح بايدن عن العودة للاتفاق النووي كخطوة أولى ثم السعي لمعالجة المخاوف الأخرى بشأن نفوذ إيران الإقليمي وقدراتها الصاروخية.
ويُمكن تقسيم نهج الحكومة الإيرانية تجاه دعوة بايدن لإجراء مفاوضات شاملة إلى اتجاهين: الاتجاه الأول من المحافظين الذين حصلوا على أغلبية مطلقة هذا العام في الانتخابات البرلمانية، وهم يرفضون المحادثات مع الولايات المتحدة بشأن القضايا غير النووية، وساعد على تعزيز موقف هذا الاتجاه مقتل قاسم سليماني في أوائل العام والعالم النووي البارز محسن فخري زاده في نهايته.
ومن ثم يرى هذا التوجه أن المفاوضات مع الغرب ما هي إلا محاولات لتحجيم المشروع الإيراني بينما يرى التوجه الثاني (المُعتدل) أنه من الضروري تعزيز استراتيجية الردع الإيرانية، لكن لا تُمثل المفاوضات غير النووية تهديداً لمصالح إيران الوطنية، ومع ذلك لن يقبل هذا التوجه أن يكون تنفيذ الاتفاق النووي مشروطاً بمفاوضات إقليمية بالإضافة إلى التفاوض بشأن الصواريخ[4]، خاصة في ضوء إشارة بايدن إلى تأييد وضع اتفاقيات إضافية تعزز القيود على برنامج طهران الصاروخي.
خاتمة
مجمل ما أعلاه أن السياسة المُرتقبة من الرئيس الأمريكي المنتخب بايدن (تجاه الشرق الأوسط بوجه عام) ترتهن بعدة عوامل أبرزها الاتجاهات العامة الحاكمة للأمن القومي الأمريكي والعلاقات الاستراتيجية مع إسرائيل ومصالح اللوبي الصهيوني وكل الجماعات المؤثرة على القرارات السياسية والاقتصادية الأمريكية.
“
فيما يخص إيران ترتبط سياسة بايدن المرتقبة بعدة عوامل منها الأغلبية الحاكمة لمجلس الشيوخ الأمريكي بالإضافة إلى اختيارات بايدن لمن سيشغلون عددا من المناصب العامة في إدارته خاصة وزارة الخارجية، كما توجد تكهنات بأن سياسة بايدن ستختلف بقدر كبير عن سياسة ترامب وأنها ستكون أكثر اقترابا من سياسة الرئيس الأسبق أوباما.
“
لكن يمكن القول إن السياسة الأمريكية المرتقبة ستكون خليطاً من المؤثرات الدولية والداخلية الأمريكية والتوجهات الفردية للرئيس الأمريكي طبقاً لانتمائه السياسي، وهو المتوقع في معظم الأحوال خاصة وأن القادة وصُناع القرارات لا يتحركون في فراغ، ولكن الواقع يحكمهم مع وجود طابع شخصي يُضفيه كُل منهم على الحقبة التي يُسيطر فيها على مقاليد الأمور، وتلك طبيعة الحياة والسياسة وإلا كانت حركة التاريخ بمثابة خط جامد لا حياة فيه يتم الانتقال عبره إلى نقاط متشابهة لا تُنتج جديداً.
ـــــــــــــــ
[1] هل تقبل إيران شروط جو بايدن التعجيزية للعودة إلى الاتفاق النووي، بي بي سي،3 ديسمبر 2020.
[2] بايدن وإيران: عودة للاتفاق النووي القديم أم تفاوض على آخر جديد، دويتش فيلله، 18 ديسمبر 2020.
[3] إلياس حرفوش، بايدن يصحح خطأ أوباما، جريدة الشرق الأوسط، 4 ديسمبر 2020.
[4] بعد تصريح بايدن.. سيناريوهات تعامل إيران مع الاتفاق النووي، موقع لبنان 24، 24 ديسمبر 2020.