استهدفت الضربات الأمريكية عدة مناطق خاضعة لسيطرة جماعة الحوثي اليمنية، في خلال الأيام الأخيرة، ما أسفر عن إصابات وأضرار مادية، وبالتزامن مع ذلك، صعّد الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” من لهجته، متوعدًا بالقضاء على الحوثيين تمامًا، فيما اتهم إيران بمواصلة دعمهم، بينما أدانت الأخيرة الهجمات الأمريكية، ودعت المسؤولين الأمريكيين إلى وقف دعم الإبادة الجماعية والإرهاب الإسرائيلي وقتل اليمنيين.
المقاومة اليمنية بين سندان النشأة والمقاومة
يرى صانعو القرار في إيران، أن أحد الأخطاء الكبرى التي ارتكبتها الإدارة الأمريكية في حربها ضد جماعة أنصار الله الحوثية هو اعتقادها بإمكانية ترهيبها والقضاء على المقاومة اليمنية نهائيًا، بما يتيح للكيان الصهيوني التخلص من تهديدها، فالحركة الحوثية ليست قوة نشأت حديثًا، بل تعود جذورها إلى ما يقرب من أربعة عقود، فقد تأسست في تسعينيات القرن العشرين وخاضت منذ ذلك الحين ستة حروب ضد الحكومة اليمنية.
ولقد مرت الحركة الحوثية بمرحلتين رئيسيتين:
أ- مرحلة التأسيس 1986م.
ب- مرحلة التشكل (1990م) بعد إعلان توحيد شطري اليمن، حيث توسعت أنشطتها في بعض مناطق محافظة صعدة شمال العاصمة صنعاء، ومع مرور الوقت، امتد نفوذها ليشمل محافظات ومديريات أخرى ذات جذور زيدية قوية.
ويعود ظهور المذهب الزيدي إلى النصف الأول من القرن الثاني الهجري؛ لذلك، ترى إيران أن حركة أنصار الله الحوثية، التي انضمت في السنوات الأخيرة بفاعلية وشجاعة إلى محور المقاومة، ليست مجرد أداة إيرانية لتوسيع نفوذها الإقليمي، كما تدّعي الولايات المتحدة وإسرائيل.
هل القضاء على جماعة الحوثي ممكن؟!
من وجهة النظر الإيرانية، فإن الطبيعة العسكرية شبه النظامية لأنصار الله من جهة، والموقع الجيوستراتيجي لليمن من جهة أخرى، يجعلان هزيمة الحركة أمرًا بالغ الصعوبة، فاليمن لا يمتلك سوى حدود برية واحدة مع السعودية، ليجعل أي غزو بري أمرًا شديد التعقيد.
إضافةً إلى ذلك، تشير التجارب السابقة إلى تراجع القوة العسكرية الأمريكية، وعدم قدرتها على هزيمة أي جيش غير تقليدي منذ الحرب العالمية الثانية، فقد شكلت هزيمتها في فيتنام نقطة تحول أجبرتها على تغيير إستراتيجياتها العسكرية من المواجهة المباشرة إلى الحروب بالوكالة.
وبعد الحرب الباردة، قادت التدخلات العسكرية الأمريكية في العراق وأفغانستان إلى سلسلة من الإخفاقات في مواجهة طالبان والجماعات غير النظامية في العراق، حيث تكبدت الولايات المتحدة خسائر بشرية كبيرة وأهدرت ميزانيات ضخمة من دون تحقيق مكاسب تُذكر، ما اضطرها إلى إعادة النظر في إستراتيجياتها العسكرية.
بناء عليه فإن زجّ الرئيس ترامب بلاده في مواجهة مع اليمن؛ بهدف إرضاء اللوبي الصهيوني، يعكس إما تجاهله التام لسجل الفشل الأمريكي في مثل هذه الحروب، أو تلقيه نصائح خاطئة من مستشاريه.
التصعيد العسكري الأمريكي ضد الحوثيين
لا شك أن الضربات الأمريكية الأخيرة لليمن تمثل تصعيدًا عسكريًا خطيرًا، قد يُعرض القوات الأمريكية في المنطقة للخطر، فالخسائر البشرية بين الجنود الأمريكيين قد تضع الإدارة الأمريكية تحت ضغط شديد من الرأي العام والمعارضة، ما يجعل هذا التصعيد مغامرة غير محسوبة لترامب، الذي رفع شعار إنهاء الحروب والتركيز على إعادة بناء الاقتصاد الأمريكي، لكنه الآن يناقض وعوده السابقة.
على صعيد آخر، ومع تغير نمط الحروب، وامتلاك دول إقليمية بعينها مثل إيران تكنولوجيا الصواريخ والطائرات المسيرة، وتوريدها لقوى المقاومة، باتت القوات الأمريكية في منطقة غربي أسيا والمتمركزة في القواعد العسكرية داخل الدول الحليفة لها، أو المنتشرة ضمن الأسطول البحري في منطقة الخليج العربي، في مرمى نيران هذه الأسلحة.
وقد أثبتت جماعة الحوثي بالفعل قدرتها على استهداف المنشآت النفطية السعودية والسفن الأمريكية، وهذا يؤكد تطورها العسكري، وبالتالي؛ فإن أول خطأ إستراتيجي للولايات المتحدة في حربها ضد الحوثيين هو افتراضها أنها قادرة على ترهيبهم والقضاء على الحلقة الأخيرة من محور المقاومة لاسيما وأن إيران لن تقف مكتوفة الأيدي عن دعمهم.
أما الخطأ الثاني، فهو اعتبار إدارة ترامب أن الحوثيين يتبعون أوامر إيران بشكل كامل، فقد صرّح ترامب بأن إيران مسؤولة عن كل صاروخ يُطلق من اليمن، وهو تفسير – تراه إيران – غير دقيق تمامًا، كما أن عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها حماس، أو مقاومة حزب الله اللبناني، أو طبيعة الحشد الشعبي العراقي، أو حتى الفصائل المسلحة في سوريا، ليست مجرد أدوات تأتمر بأوامر طهران.
والحقيقة أن إيران تنتهز هذا الخطاب حتى لا تُلام على تصعيد حدة الصراع في المنطقة، وبالرغم من ذلك، يبدو أن ترامب يحاول الضغط على إيران، ودفعها نحو التفاوض من دون شروط عبر إضعاف آخر أذرعها في المنطقة، إلا أنها لن تخضع بسهولة لمثل هذه الضغوط، وستواجهها بتكثيف حملاتها الإعلامية حول قدراتها العسكرية، مستندة إلى عملياتها السابقة، مثل إسقاط الطائرة المسيرة الأمريكية “جلوبال هوك”، واستهداف قاعدة “عين الأسد” العسكرية الأمريكية لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية.
وقد توقف تعاونها ــ إن تطلب الأمر ــ مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومع ذلك، فإن مصلحة إيران تكمن في التفاوض مع الولايات المتحدة لرفع العقوبات الاقتصادية، المفروضة عليها منذ العام 2018م، وهو ما لا يريده الرئيس دونالد ترامب حاليًا.
مآلات الضربة الأمريكية على اليمن
من المؤكد أن الضربة الأمريكية ستؤدي إلى إعادة ترتيب الأولويات الإستراتيجية لواشنطن، حيث ستتراجع خطتها الرامية إلى تقليل التركيز على منطقة غربي أسيا لصالح احتواء الصين، ولعل هذا يصب في مصلحة بكين باعتبارها المنافس الإستراتيجي الأهم للولايات المتحدة.
كما أن أي تصعيد عسكري في منطقة الخليج سيؤدي إلى ارتفاع أسعار الطاقة وتهديد أمن الإمدادات، وبالتالي، سينعكس سلبًا على الاقتصاد العالمي، وهو ما يتعارض مع مصالح إدارة ترامب. غير أن الخسائر البشرية الأمريكية ستكون حتمية في أي مواجهة محتملة، وقد يؤدي ذلك كله إلى تصاعد موجة الغضب الشعبي داخل الولايات المتحدة، الأمر الذي يهدد شعبية ترامب والحزب الجمهوري.
إضافة إلى ذلك، فإن الحرب في غربي أسيا ستؤثر سلبًا على الملف الأوكراني، إذ ستُضعف قدرة الولايات المتحدة على متابعة الوضع هناك والتفاوض مع روسيا، ليمنح الأخيرة فرصة جديدة لتوسيع نفوذها، وهو ما يشكل تهديدًا لواشنطن وكارثة محتملة لأوروبا.
ومن المرجح أيضًا، أن تراجع إيران سياساتها النووية، وربما تفكر في الخروج من معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية (NPT) ووقف التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهو سيناريو يُعقد الموقف الأمريكي الذي لا يزال يسعى إلى حلٍ دبلوماسيٍ لهذا الملف.
خاتمة
مجمل القول، لا يبدو أن الرئيس الأمريكي ترامب يسعى إلى حرب شاملة مع إيران، بل يحاول تضييق الخناق على نفوذها الإقليمي، فالإدارة الأمريكية تعتبر جماعة الحوثي هي الحلقة الأخيرة من محور المقاومة القادرة على تهديد أمن إسرائيل ومصالح الولايات المتحدة في المنطقة، ولهذا، عمدّ في الوقت الراهن إلى عزل إيران دبلوماسيًا من جهة، ودفعها نحو التفاوض النووي من جهة أخرى. إلا أن الأخيرة لا تزال تمتلك قوة ردع كبيرة لم تُستخدم بالكامل بعد، وهو ما يجعل واشنطن وتل أبيب تتجنبان أي مواجهة عسكرية مباشرة معها، مع إعطاؤ الأفضلية لاتباع سياسة العقوبات والقضاء على محور المقاومة.