بدأت الأزمة السورية في مارس 2011 بتظاهرات سلمية في مدينة درعا للمطالبة بإصلاحات سياسية، ولكن سرعان ما تحولت إلى نزاع دموي أفضى إلى حرب أهلية شاملة. ما لبثت الأزمة أن تحولت إلى صراع متعدد الأطراف، حيث تداخلت فيه عوامل إقليمية ودولية بشكل معقد، ما جعل منها واحدة من أخطر الأزمات في التاريخ الإقليمي المعاصر.
أولًا: الدور الإقليمي في تطورات المشهد السوري
منذ بداية النزاع، لعبت القوى الإقليمية دورًا محوريًا في تشكيل التحولات السورية. إيران، على سبيل المثال، قدمت دعمًا سياسيًا وعسكريًا كبيرًا للحكومة السورية بهدف الحفاظ على نفوذها في المنطقة، حيث أرسلت مستشارين عسكريين وأدوات دعم مثل حزب الله.
من جهة أخرى، دعمت تركيا المعارضة السورية عبر تقديم الدعم العسكري واللوجيستي للفصائل المعارضة، خاصة الفصائل الكردية المقاتلة في شمالي سوريا. تركيا ترى في سقوط الأسد فرصة، لتعزيز نفوذها في المنطقة، واحتواء النفوذ الكردي المهدد لأمنها. في حين سعت السعودية إلى دعم فصائل المعارضة المعتدلة لإضعاف النفوذ الإيراني في المنطقة.
اقرأ أيضا:
الولايات المتحدة أيضًا تدخلت بشكل عسكري، لإضعاف النظام السوري، والحد من النفوذ الإيراني في المنطقة. وفي وقت لاحق، تدخلت لمحاربة تنظيم داعش في سوريا، وهو الذي كان متحكما في مناطق واسعة شمالي وشرقي البلاد. بينما لعبت روسيا دورًا محوريًا في دعم النظام السوري. منذ عام 2015، كانت تسعى للحفاظ على مصالحها الإستراتيجية في البحر المتوسط، وتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط.
لاشك أن الصراع السوري كان ساحة لتصفية الحسابات بين القوى الكبرى، حيث كانت الولايات المتحدة وروسيا من جهة، وإيران وتركيا من جهة أخرى في صراع مباشر عبر أطراف مختلفة. ما أدى إلى تعقيد المشهد السوري، وزيادة تداعياته الإنسانية والاقتصادية. بالإضافة إلى ذلك، تداخلت عوامل خارجية أخرى أدت إلى تغييرات دراماتيكية في تعقيد المشهد السوري متمثلة في الدور الأوكراني والإسرائيلي.
ثانيًا: الدور الأوكراني في سقوط النظام السوري
في الآونة الأخيرة، ظهرت تقارير مختلفة تشير إلى تدخل أوكراني في الحرب السورية، حيث كتبت صحيفة “كييف بوست” عن تدريب مقاتلين من هيئة تحرير الشام تحت إشراف ضباط أوكرانيين، وأنهم شاركوا في ميادين القتال إلى جانب هيئة تحرير الشام. ليتمكنوا من السيطرة على مناطق ومدن إستراتيجية كمدينة حلب وإدلب وحماة، وحمص؛ ما أدى إلى حصار مناطق اللاذقية وطرطوس.
السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هي المصالح التي يرغب الأوكرانيون في تحقيقها من خلال مشاركتهم في الحرب السورية؟ للإجابة عن هذا السؤال يجب أن نأخذ بعين الاعتبار عنصرين رئيسيين وهما:
أ- الأوكرانيون في حرب مع روسيا منذ أكثر من عامين، وهي حرب تكبدوا فيها خسائر كبيرة. في هذا السياق، تسعى أوكرانيا إلى تنويع جبهات الحرب، لتخفيف الضغط على مواقعها. ومن خلال تأجيج التوترات في سوريا، تسعى أوكرانيا إلى تقليل تركيز روسيا على ساحة الحرب في أوكرانيا. وتوجيه جزء من القدرة الإستراتيجية الروسية نحو سوريا، ذلك لأن روسيا لديها مصالح جدية في سوريا، لا يمكن تجاهلها. لاسيما وأنها تدرك ما يمكن أن يترتب على قطع وصولها إلى اللاذقية وطرطوس من تكاليف جيوإستراتيجية في تنافسها مع الولايات المتحدة والغرب.
ب- هناك العديد من التحليلات الغربية التي تنصح أوكرانيا بالتحرك نحو طاولة المفاوضات مع روسيا لإنهاء الحرب. ولكن مشكلة الأوكرانيين هي أنهم لا يملكون أوراق ضغط كبيرة في المفاوضات، ما يجعلهم غير قادرين على إجبار روسيا على قبول مطالبهم. ولهذا يحاول الأوكرانيون إرسال رسالة إلى الكرملين مفادها، أنهم يمتلكون أوراق ضغط يمكنهم استخدامها في مفاوضات السلام كأداة للمساومة. ويرون أن هذه الخطوة قد تحافظ على مصالحهم على المدى الطويل.
وعلى الرغم من هذين العنصرين، استمر الأوكرانيون في اتهام إيران بأنها تزود روسيا بالأسلحة، ومن ثم، يحاولون إرسال رسالة أخرى إلى إيران مفادها، أن استمرار الحرب في أوكرانيا، والمساعدات من طهران إلى موسكو قد يكون له عواقب سلبية عليها، وبالتالي رأت إخراج دمشق من محور المقاومة، سببًا لردع إيران عن استمرار دعمها لروسيا. إلا أنها تجاهلت أن طهران وموسكو يمكنهما التعاون لتعريف مصالح مشتركة في سوريا، ما يساعدهما على قمع تحركات هيئة تحرير الشام، ومنع تنفيذ خطط حلف الناتو في شرق البحر الأبيض المتوسط.
ثالثا: الدور الإسرائيلي لإخراج سوريا من محور المقاومة
منذ عام 2018، وبعد إعلان عقيدة “الألف خنجر” من قبل نفتالي بينت رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق والشخصية البارزة في “ملف إيران”، تبنت القوات الجوية لجيش الاحتلال الإسرائيلي سياسة استهداف مستشاري إيران في سوريا، عبر عمليات اغتيال طالت قيادات في الحرس الثوري هناك. كان الهدف من هذه العمليات إضعاف النفوذ الإيراني في سوريا ومنع تعزيز الوجود العسكري الإيراني في المنطقة.
ردًا على هذه السياسة، تبنت طهران سياستي “الصبر الإستراتيجي” و”العين بالعين” لإفشالها. وعلى الرغم من أن المسؤولين في طهران كانت لديهم الفرصة لتعزيز الوجود الاستشاري في سوريا، لتعزيز جبهة دعم حزب الله، إلا أن إسرائيل نجحت في تكثيف الضغوط على إيران، ودفع حزب الله إلى حرب مباشرة، كلفته خسائر فادحة.
هذا ويرى قطاع من صناع القرار في إيران، أن هيئة تحرير الشام تحركت من إدلب، بدعم جوي واستخباراتي من سنتكوم وإسرائيل وتركيا. وهى خطة معقدة لإرهاق روسيا، وفتح جبهة جديدة لها في سوريا بهدف إرباك تركيزها العملياتي في أزمة أوكرانيا، وفي الوقت نفسه إخراج دمشق من محور المقاومة.
رابعًا: تداعيات سقوط النظام السوري على التحولات الإقليمية
في حال سقوط النظام السوري، ستشهد المنطقة تغييرات جوهرية في توازن القوى خاصة الدول الغربية وإسرائيل. بالنسبة لهاتين القوتين، قد يبدو تحويل سوريا إلى “أرض محروقة” كفوز تكتيكي للحد من نفوذ إيران وحزب الله في المنطقة، لكنه في الواقع، قد يؤدي إلى خلق فراغ سياسي قد يستغل من قبل لاعبين آخرين. لكنه في المقابل، يمثل عبئًا إستراتيجيًا قد يكون له تبعات كبيرة على واشنطن وتل أبيب.
ومن المتوقع أن تسعى كل من إيران وحزب الله لتوسيع نفوذهما في المنطقة، لا سيما في لبنان واليمن وغزة. هذا التحول قد يؤدي إلى تصعيد الأزمات في هذه البلدان ويزيد من تعقيد الوضع الأمني في الشرق الأوسط. كما أن الانقسامات الحادة بين جماعات المعارضة مثل: هيئة تحرير الشام، قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، الجيش الحر، قد تتصاعد مع تغير المصالح الإستراتيجية.
بالتالي هذا الوضع قد يستغل من قبل أطراف مثل: تركيا والقوى السنية المعارضة عبر توسيع نفوذهم على حساب القوى الكردية، وتعزيز مصالحهم الإستراتيجية في شمالي سوريا. إلا أن ذلك قد يفتح المجال لمزيد من الفوضى والانقسام في المنطقة، ما يهدد استقرارها بشكل أكبر.
خاتمة
تظل الأزمة السورية مسألة معقدة، مليئة بالتشابكات الإقليمية والدولية التي تتجاوز حدود سوريا نفسها. كما أن سقوط النظام السوري، في حال حدوثه، سيحدث تأثيرات عميقة على التحولات السياسية والإقليمية، حيث ستتغير ديناميكيات القوى الكبرى في المنطقة. ومن المتوقع أن تستغل القوى الإقليمية، مثل تركيا والقوى السنية المعارضة، هذه الفرصة لتوسيع نفوذها، بينما ستظل القوى الأخرى تحاول تأمين مصالحها الإستراتيجية، ما يزيد من تعقيد المشهد السوري ويسهم في استدامة التوترات الإقليمية والدولية.