يُعتبر الإطار الإقليمي بمثابة الإطار المرجعي الذي ينبع منه كل من مفهومي الوطن العربي والشرق الأوسط، وإن كانت النتائج المترتبة على استخدام أحد المفهومين من دون الآخر بالغة الاختلاف، ويمكن القول إن الدول العربية تندرج تحت عدة أطر، فهي من الزاوية الثقافية تعتبر نسقا فرعيا لمجموعة الدول الإسلامية، وهي من زاوية التنمية تدخل في إطار الدول النامية أو دول الجنوب.
في إطار السياق السابق، يمكن القول إن إشكالية العلاقات العربية ــ الإيرانية تظهر بوضوح ما بين مؤيد ومعارض، ومن يطرح المزايا ومن يرى العيوب على نحو مبالغ تحقيقا لأغراض خاصة وإثباتا لقناعات شخصية.
تسعي المقالة إلى تناول العلاقات الإيرانية ــ السعودية كنموذج في الإطار السابق على النحو الآتي.
أولاً : البعد الدولي في تحديد مسار العلاقات العربية ــ الإيرانية
مما لا شك فيه أن محاولات الفصل بين الدول العربية وإيران الفارسية من المنظور السياسي والثقافي ترتبط في جزء منها ــ لا يستهان به ــ بمصالح الدول الكبرى صاحبة اليد العليا في محاولة خلق أطر ثابتة للتعامل والتفاعل بين الدول العربية والإسلامية بوجه عام، والترويج لأحكام ونتائج تنعكس على المستوى السياسي؛ لصرف النظر عن مصادر التهديد الفعلية التي يعلمها الجميع ويتغاضون عنها أيضا بدافع المصلحة.
فالولايات المتحدة عبر عقود قامت بتصدير صورة معينة عن إيران عبر إثارة الذعر الدولي من برنامجها النووي، وعلى حد تعبير هيلاري كلينتون في مذكراتها التي نُشرت تحت عنوان خيارات صعبة: “أنه برغم ادعاء القادة الإيرانيين أن برنامجهم النووي له أهداف سلمية فقط، فإن العلماء الإيرانيين يعملون في مخابئ بنيت في الجبال من أجل تخصيب اليورانيوم لمستويات وكميات جعلت الكثير يشكون في نواياهم، وأنه برغم وجود محاولة للتقارب السياسي بين الرئيس الإيراني محمد خاتمي (1997 ــ 2005) والولايات المتحدة في أعقاب اعتداءات 11 سبتمبر على أمل التعاون آنذاك في أفغانستان، إلا أن هذا التقدم اختفي تماما عندما ضم الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن إيران إلى دول محور الشر”.
عليه يمكن القول إن لقب “محور الشر” لعب دورا في تهيئة العقل الجمعي العربي بنسبة لا يستهان بها بصورة مباشرة وغير مباشرة.
والحق أن مسألة الاختراقات الخارجية للنظام العربي ليست مسألة حديثة كما هو معروف، ولكنها زادت حدة مع ضعف النظام الإقليمي العربي وانكشافه الأمني تدريجيا، ومن الطبيعي أن يبدأ الاختراق من الأطراف البعيدة عن النظام، وأن ترتبط القدرة على تحمل الضغوط بمدى قدرة النظام الإقليمي نفسه على توفير مظلة ردع أو حماية أو مواجهة حسب الحالة، وحين تغيب هذه المظلة تضعف قدرة أطراف النظام وتنجح الاختراقات في تحقيق أهدافها.
ومن ثم يمكن القول إن المظلة الحاكمة لمسار التفاعلات العربية مع إيران (خارجية) وإن لم يبد ذلك بوضوح في الواقع، ولا يخفي على أحد دلالة موقف الصين في هذا الإطار التي بدأت في الخروج تدريجيا من دائرة (الاقتصاد) إلى مجال (الدور السياسي الدولي) ما يعطي انطباعات مستقبلية عن شكل النظام الدولي في العقود المقبلة.
ثانيا: تطورات العلاقات الإيرانية ــ السعودية
يجد المراقب أن الفترات الأخيرة شهدت تطورات فيما يخص العلاقات بين إيران والمملكة العربية السعودية. ففي شهر إبريل الماضي، تم لقاء بين وزير الخارجية السعودي ونظيره الإيراني في العاصمة بكين، وتداولت الأنباء اتفاق الرياض وطهران على إنهاء خلافهما الدبلوماسي وإعادة فتح السفارات.
وذلك بعد توترات شهدتها السنوات الماضية أبرزها على سبيل المثال وليس الحصر اتهام السعودية إيران عام 2019 بشأن هجمات استهدفت المنشآت النفطية السعودية؛ ما أدى آنذاك إلى تعطيل نصف امدادات المملكة العربية السعودية، ونفت إيران وجود دور لها، لكن جماعة الحوثي اليمنية المتحالفة مع إيران أعلنت مسؤوليتها عن هذه الهجمات.
ويمكن الإشارة أيضا إلى وجهات النظر السعودية التي رأت أن نقاط التماس والتعارض بين السعودية وإيران متعددة بسبب نهج إيران التوسعي وليس نهج الرياض، خاصة أن السعودية تلتزم بفكرة حسن الجوار وعدم التدخل في شؤون الغير، وأبسط مثال على ذلك إعادة تفعيل اتفاقية التعاون الأمني بين البلدين الموقعة عام 2001 وهو ما يمكن أن يقال عنه “ثبوت النهج السعودي في مقابل عدم الالتزام الإيراني”.
بالنظر إلى الوضع الحالي، فإنه من المتوقع حدوث تحول إيجابي في العلاقات السعودية ــ الإيرانية على خلفية تصريح وزير المالية السعودي بشأن إمكانية ضخ استثمارات سعودية في إيران.
وعلى الرغم من حديث البعض عن أن التطورات الحالية أقرب إلى إعلان نوايا في مضمونها وما زالت لم تسفر عن سياسات فعلية ملموسة على أرض الواقع، إلا أنه يمكن النظر للأمر من منطلق أن حدوث تقارب بين السعودية وإيران (وهما دولتان طالما تم النظر إليهما على أنهما خصمين ومتنافسين على القيادة الإقليمية “يمكن أن يُحدث آثارا شبيهة بفكرة كرة الثلج لإعطاء دفعة للعلاقات الإيرانية ــ العربية وأبرزها مصر، وذلك في ضوء تصريحات إيران الحالية عن ترحيبها بالعلاقات مع مصر وأنه لا يوجد موانع في هذا الصدد.
وبوجه عام فإنه إذا ما تم حدوث تقارب متزايد بين إيران والسعودية، قد يساهم ذلك على حد تعبير وزير الخارجية السعودي في دعم فكرة المصير الواحد لمنطقة الشرق الأوسط والقواسم المشتركة بين الدول العربية والإسلامية.
وكما أشار وزير الخارجية الإيراني إلى أن عودة العلاقات بين إيران والسعودية تضع إمكانيات كبيرة في متناول البلدين والعالم الإسلامي، وأن الجهات الدبلوماسية الإيرانية تمضي بشكل نشط للتمهيد لخطوات إقليمية أخرى.
ثالثا: العامل الاقتصادي في العلاقات الإيرانية ــ السعودية
فيما يخص العلاقات التجارية السعودية ــ الإيرانية أعلن وزير الصناعة والمعادن والتجارة الإيراني خلال الشهر الماضي عن بدء تنشيط التبادل التجاري بين إيران والسعودية، ومن الجدير بالذكر في هذا الإطار الإشارة إلى أنه في عام 2014 بلغت قيمة الصادرات والواردات بين إيران والسعودية نحو 205 ملايين دولار، وفي عام 2015 تصاعد هذا الرقم إلى 212 مليون دولار.
وبعد اتساع الفجوة بين البلدين حدث اتجاه للهبوط في العلاقات التجارية البينية، إذ وصل حجم الصادرات والواردات في عامي 2021-2022 إلى أقل من 60 مليون دولار.
من ضمن المجالات الأخرى التي من المتوقع تفعيلها بين إيران والسعودية الترتيب لاستئناف الرحلات من الوفود الرسمية والقطاع الخاص، وتسهيل إصدار التأشيرات، بالإضافة إلى التأكيد على عدم استخدام القوة العسكرية ضد بعضهما البعض وعدم دعم الجماعات المسلحة في مواجهة كل منهما.
إذن يمكن القول إن العلاقات العربية ــ الإيرانية بوجه عام والسعودية ــ الإيرانية بوجه خاص، من المتوقع أن تشهد تطورات إيجابية خاصة إذا ما تم النظر إلى الخلافات السياسية الدولية على أنها يتم تضخيمها بدافع المصالح الإقليمية والدولية المتعددة كما سبقت الإشارة في المقدمة، ولنتذكر في هذا السياق ما سبق وقاله الدكتور عبد الوهاب المسيري في معرض حديثه عن فكر على عزت بيجوفتش من أن التجربة الرأسمالية لا تختلف على الإطلاق عن التجربة الاشتراكية إذ يصدر النمطان عن مقولة “الإنسان الطبيعي” أي الإنسان ذي الأصول المادية الطبيعية الكامنة وراء كل من النظامين المشار إليهما.
بالمثل يمكن القول إن الأسس الجامعة للدول العربية والإسلامية واحدة، حتى وإن تباينت بعض المظاهر والسياسات، فالاتحاد بينهم ليس “إعجازا سياسيا” ولكن ترسيخ التباينات والخلافات تم عبر عقود بحيث أصبحت الوحدة والتعاون الفعال المستمر شعارا كبيرا وتطبيقا على نحو متقطع ومتغير، بحيث تحتل الخلافات مساحة كبيرة من الواقع السياسي.
بالتالي فإن إيران لم تكن كيانا مضادا للعرب، وليس من المستبعد إقامة علاقات سياسية واقتصادية على نحو أوثق مع العرب، ولكنها السياسة وحساباتها التي تخالف العقل في الكثير من الأحيان لتصنع كيانات وأوضاع توافق “المطلوب ترسيخه” وليس “الحقيقة”.