استأنفت الولايات المتحدة الأمريكية العقوبات الاقتصادية ضد إيران في مرحلتين كانت أخراهما في نوفمبر الماضي، الأمر الذي أدى إلى تصاعد الضغط على طهران مع إعلان واشنطن إنهاء الإعفاءات التي كانت منحتها لثماني دول لشراء النفط الإيراني، وأكدت الولايات المتحدة أنها تسعى من وراء ذلك إلى “تصفير” صادرات النفط الإيراني لتجفيف المصدر الرئيس لتمويل ميزانية الدولة “وحرمان النظام من العائدات التي يحتاج إليها لتمويل الإرهاب والحروب في الخارج”، والدول الثماني هي الصين والهند وكوريا الجنوبية وتركيا واليابان وتايوان وإيطاليا واليونان.
فحوى العقوبات الأمريكية
من المقرر أن تستجيب الدول الثماني للقرار الأمريكي القاضي بمنع كل الدول أو الكيانات أو الشركات الأجنبية من دخول الأسواق الأمريكية في حال قرّرت المضي قدما بشراء النفط الإيراني أو مواصلة التعامل مع المصارف الإيرانية، ولعل الولايات المتحدة تهدف بذلك إلى حرمان المؤسسات المالية الإيرانية من التعامل وفقا لنظام “سويفت” الدولي للتحويلات المالية، باستثناء “التحويلات الإنسانية”. وتقول الولايات المتحدة إن العقوبات، ومنذ فرضها العام الماضي، تسببت في حرمان إيران من نحو 10 مليارات دولار.
الملاحظ في شأن آلية العقوبات الاقتصادية الأمريكية ضد الدول أنها ليست بالأمر الجديد داخل النسق الدولي على سبيل التخصيص، وهو ما أضطر الولايات المتحدة إلى البحث عن استراتيجية جديدة يمكن من خلالها كبح جماح النفوذ الإيراني في المنطقة والعدول عن امتلاك التكنولوجيا النووية، وهو ما أدرجته الولايات المتحدة ضمن خطتها الأولية في السياسة الخارجية ضد طهران، من خلال تكوين فريق عمل خاص بقيادة، بريان هوك، حول إيران، لبحث التزام طهران والدول بالعقوبات الاقتصادية المفروضه عليها من عدمه.
هذا الأمر يثير جدلية من نوع خاص، تتمحور حول السؤال الأهم، هل تريد الولايات المتحدة فعلاً إسقاط النظام الإيراني بأكمله من خلال توجيه ضربة عسكرية له سواء عن طريق مباشر، أو من خلال حرب بالوكالة تشارك فيه القوى العربية، لا سيما في منطقة الخليج العربي، أم تسعى الولايات المتحدة إلى تعديل سلوكه فقط من خلال عملية إحلال وتجديد داخل المؤسسات الإيرانية.
لذلك تنوي واشنطن ممارسة الضغط على إيران وحلفائها في المنطقة على أمل أن تتمكن وكالة الاستخبارات الأمريكية من إيصال سياسيين يناسبون الأمريكيين إلى السلطة في طهران كما فعلت في بلدان أخرى، ولكن هل الإدارة الأمريكية تدرك خطورة ذلك؟!
فهى وإن كانت تريد تغيير النظام الإيراني فهل تريد تغييره بأكمله أم تريد تغيير وتعديل بعض سياساته وسلوكياته في المنطقة فقد؟!
الخبرة التاريخية
لعل تجربة الرئيس الأمريكي كارتر مع الشاه الإيراني وثورة 1979 خير دليل عن أن هذا التساؤل يثير حقاً جدلا وتخبطا واسعين داخل الإدارة الأمريكية ذاتها، غير أن معضلة إسقاط النظام السياسي الإيراني كليةً، حتى وإن كانت أحد الحلول الأمريكية المطروحة، الذي تتوافر له كل المقومات الأمريكية، إلا أنه حل قد يكون غير مجدي، فهل تضمن الولايات المتحدة أنه إذا تم إسقاط النظام الإيراني لن يسيطر الجيش الإيراني على الحكم؟! وتدور الولايات المتحدة في فلك “صناعة العدو” مرة أخرى.
أيضاً ما هو الثمن الذي لا بد من سداده لقاء ذلك على الصعيدين السياسي والدبلوماسي، ثم على الصعيد الاستراتيجي بالمدى البعيد، لا سيما مع إزهاق إدارة الرئيس ترامب من طموحات بناء الدولة في إيران؟!
علامات الاستفهام هذه تجعل من المتوقع أن تتعامل إدارة ترامب الآن للملف الإيراني باستراتيجية أكثر مرونه تعتمد فى الأساس على صياغة مزيج من هذين الخيارين (تعديل سلوك النظام الإيراني ـ تغييرات في النظام الإيراني ذاته)، من خلال العمل على مسار تغيير النظام الحاكم على أمل إقناع القيادة في طهران بقبول عملية تعديل السلوك على اعتبار قاعدة أخف الضررين.
إن هذه السياسة تتفق في الأغلب مع المثل الفارسي الذي يقول: “نار الحمى ولا سيف الجلاد”. ولكن فى حالة اعتماد هذا المزيج لدى الإدارة الأمريكية، فلا يزال هناك خطر كبير من عدم اليقين يتعلق بمشاعر ترامب نفسه حيال الخيارات المطروحة في أي وقت من الأوقات؛ إذ يعتمد الرئيس الأمريكي بشكل كبير على حدسه الخاص، أكثر من اعتباره لأي سيناريو سياسي أو عسكري مُصاغ بكل عناية ودهاء، كما أنه يفضل كذلك ممارسة اللعبة السياسية قصيرة الأجل على إدارة الصراع السياسي طويل الأمد حال العمل على إبرام أي صفقة من الصفقات السياسية.
أولاً: استراتيجة أمريكا الجديدة المطروحة للتعامل مع الملف الإيراني
بناءً على ما تقدم، فإن استراتيجة الولايات المتحدة الأمريكية الجديدة المطروحة للتعامل مع الملف الإيراني سواء كانت لتعديل السلوك الإيراني أو إسقاط النظام الإيراني نفسه، ينتابها الكثير من الميزات والعيوب على نحو دقيق.
إذ يبدو خيار تغيير النظام الحاكم أكثر منطقية لسببين اثنين على أقل تقدير من وجهة نظر استراتيجية بحتة، على الرغم من أن خيار تغيير النظم الحاكمة يسهل قوله كثيراً عن تنفيذه، وبرغم امتلاك الولايات المتحدة الأمريكية كل الأدوات العسكرية والسياسية والاقتصادية الكفيلة بإسقاط النظام الإيراني الحاكم من الناحية النظرية، إلا أن الواقع السياسي الدولي الحالي أكثر صدمةً لهذا الخيار الأمريكي، نتيجة لتعاظم النفوذ الروسي والصيني على الساحة الدولية والمناوئ لأي استراتيجية أمريكية حالياً.
وتكمن أسباب جدوى استراتيجية تغيير النظام الحاكم الإيراني (إسقاط النظام الإيراني) بالنسبة للولايات المتحدة في عدة أمور هي:
1 ـ أنه يوفر هدفاً معيناً وواضحاً يمكن قياس الأداء الخاص به في أي وقت من الأوقات، وبالتالي يمكن اعتراض ثم إيقاف أي إجراء من شأنه المساعدة في إطالة عمر النظام الإيراني الحاكم، وأي إجراء من شأنه المساعدة في تسريع وتيرة عملية تغيير النظام يمكن تشجعيه وإسناده.
2 ـ أن تعديل السلوك من شأنه أن يمنح الجانب الإيراني ميزة المبادرة، وسوف يرجع الأمر في ذلك إلى طهران كي تعمل على ضبط أو تعديل هذا أو ذاك الجانب من جوانب سياستها وبالإيقاع الذي يتناغم مع العزف الإيراني الرخيم على مختلف أدوات السياسة الخارجية.
على الجانب الآخر، فى حالة انتهاج استراتيجية تعديل السلوك، يرى عدد من الخبراء (أمير طاهري نموذجا) أن السياسة الخارجية الأمريكية سوف تتخذ موقف رد الفعل الذي يدفع طهران إلى اعتماد سياسة المخادعة والمخاتلة التي تنطوي على مزيج من التنازلات التي تعقبها سلسلة من الخطوات الاستفزازية الجديدة، ثم الانتظار حتى نهاية فترة رئاسة دونالد ترامب.
من ناحية أخرى، يلاحظ أن طهران قد مارست بالفعل لعبة تعديل السلوك مع كل الرؤساء الأمريكيين السابقين تقريباً، منذ عهد الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، وتمكنت إثر ذلك من تثبيط الإجراءات الحاسمة التي اتخذتها تلك الإدارات على أمل ما كان يوصف بأنه “إعادة طهران إلى الحظيرة الدولية مرة أخرى”.
ثانياً: محفزات وأسباب الدخول الأمريكي فى حرب ضد إيران من عدمه
يمكن القول إن الولايات المتحدة ليست عازمة على الدخول فى حرب مع إيران، حتي وإن كثفت القوات الأمريكية من تحركاتها العسكرية فى الآونة الحالية، سواء فى منطقة الخليج العربي، أو الشرق الأوسط بصفة عامة، فإن هذه التحركات تقع فقط ضمن بوتقة التهديدات الأمريكية لإيران وحلفائها فى المنطقة لحثها على الالتزام بالعقوبات المفروضة عليها وخفض تحركاتها وأنشطتها الثورية المهددة ليس للأمن والاستقرار فى المنطقة فقط، بل وتهديد لمصالح الدول العظمى وعلي رأسها الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين فى المنطقة، علي غرار ما حدث قبالة سواحل الإمارات والسعودية وتهديد للملاحة البحرية قرب ميناء الفجيرة الإماراتية، وذلك بسبب عدة عوامل، أبرزها:
ــ أن الجانب الإيراني يمتلك العديد من المليشيات والأذرع العسكرية التابعة لقوات الحرس الثوري الإيراني المنتشرة بصورة واسعة في كل من اليمن، وسوريا، والعراق، ولبنان، ومن ثم فإن الجانب الأمريكي لا يمتلك المال الكافي رغم كبر ميزانيتها العسكرية التي تصل إلي 700 مليار دولار، إلا أنها لا تستطيع تمويل الحروب فى أي وقت قريب، غير أن إيران ليست مثل العراق، أو سوريا، نتيجة لأن التعداد السكاني لها يصل نحو 58 مليون نسمة، ومساحتها تصل إلى 1.6 مليون كم مربع، ولذلك فإن عملية الغزو الأمريكي لإيران وإسقاط نظامها يعد أمراً صعباً للغاية.
ــ على الرغم من وجود العديد من المؤشرات الحالية التي تنذر باشتعال فتيل الحرب على إيران، لا سيما فى منطقة الأحواز داخل إيران نفسها بمعاونة شعب الأحواز للقوات الأمريكية، بالإضافة للدعم الأمريكي من العراق لشعب الأحواز والزج بالعراق فى حرب بالوكالة مع إيران، من خلال قيام الولايات المتحدة بعملية قصف جوي بالصواريخ الباليستية من طراز توماهوك وكروز، إلا أن إيران تمتلك القدرة على عرقلة العجلة الاقتصادية الأمريكية والعالمية ليس فقط لتحكمها فى مضيق هرمز، واقتراب الحوثيين من السيطرة على باب المندب على إثر ذلك، بالإضافة إلى قدرة إيران على استهداف مقرات القواعد العسكرية فى منطقة الخليج والعراق، ما تنهار الجبهة الداخلية لإيران وهو ما تسعي إليه الولايات المتحدة علي المدي البعيد كما فعلت فى العراق من قبل.
خلاصة القول، إن الولايات المتحدة لن تدخل فى حرب مباشرة مع إيران، على الرغم من كل التصعيدات من كلا الطرفين، كما أن إيران لن تكف علي أنشطتها الثورية الطامحة لنشر المذهب الشيعي فى المنطقة وتحقيق حلم إنشاء الإمبراطورية الفارسية، الأمر الذى لن يكتمل إلا من خلال امتلاكها تكنولوجيا نووية وسلاح نووي لتأمين وجودها وبسط هيمنتها داخل الإقليم وهو ما يفسر قيام إيران بالانسحاب مؤخراً من بعض بنود الاتفاق النووي، واستئناف عملية تخصيب اليورانيوم والاحتفاظ بالماء الثقيل، وبالتالي تلعب إيران على وتيرة الوساطة الدولية، لا سيما لتهدئة الجانب الأمريكي، عن طريق روسيا مستغلة أنها تمتلك حق القض “الفيتو” فى مجلس الأمن لضمان وجود قوة عظمى مناوئة لأمريكا تدافع عنها، ويمكن تلخيص سياسة العقوبات الأمريكية تجاه إيران في كونها آلية لإخضاع إيران للتفاوض مرة أخرى وإيجاد اتفاق تكميلي لخطة العمل الشاملة المشتركة.