تحل اليوم 28 يونيو الذكرى الـ131 لمولد الأستاذ عباس محمود العقاد المولود عام 1889م في محافظة أسوان بصعيد مصر، وبالرغم من أن الجميع عَرَفَ العقاد، أو قرأ له، أو تأثر به أديبا وكاتبا وشاعرا ومؤرخا وفيلسوفا، إلا أن جانبا في شخصيته يظل مطموسا حتى الآن، ألا وهو أنه كان باحثا ـ وصل حد الخبرة الشديدة ـ في الشؤون الإيرانية.
فمن يطالع إنتاج العقاد ببعض من التركيز يجد أنه كان ميالا للبحث العميق في المسألة الإيرانية، أو شؤون بلاد فارس لما لها من تأثير على أغلب مجريات التاريخ بدءا من العقيدة ومعرفة الله ومرورا بعلاقة فارس بالأديان السماوية والوضعية وتطور الفكر الديني بها، ثم أسباب انهيار دولة الساسانيين والفتح العربي الإسلامي لفارس، وانتهاء بالأدب والسياسة والفن في تلك البلاد.
كان العقاد محظوظا لأنه عاصر الدولة القاجارية، وشهد انهيارها وسبر أغوار قيام الدولة البهلوية المازندرانية وانتقال الحكم فيها من الأب المؤسس رضا خان إلى ابنه الشاه محمد رضا بهلوي، ولذلك سيجد المتأمل لفكر العقاد اهتماما خاصا بهذه البلاد وما حدث فيها وما يكتنفها من أحداث كمحدد لفهم كثير من الحوادث والتفاعلات في الشرق الأوسط، بل والعالم ككل.
وفي فكر العقاد كانت بلاد فارس هي أحد مفاتيح حل لغز الصراع البريطاني ـ الروسي في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وركز في تحليله على بحث نمط التنمية الاقتصادية كمحدد لكل من الدولتين الكبريين في التعامل مع إيران ومن ذلك إنشاء السكك الحديدية في طهران وبوشهر وسباق موسكو ولندن على الانفراد بالامتيازات النفطية في هذه البلاد، ثم دقق في علاقات البلدين بإيران في سنوات الحربين العالميتين وما بعدها.[1]
في كتابه “الله” أفرد الأستاذ العقاد مبحثا كاملا للديانات في فارس القديمة، وتوصل من خلاله إلى أن تاريخ الديانات فيها هو أهم التواريخ الدينية بين الأمم الأسيوية قاطبة، وقد ربط في هذا المبحث بعبقرية بين الحضارات الفارسية والفرعونية والبابلية من حيث الفكر والاعتقاد وهو أنها آمنت جميعا بالعالم الآخر. والملاحظ أنه ركز على المجوسية والزرادشتية باعتبارهما مرحلتين مفصليتين قبل مرحلة الأديان السماوية التي ستأتي بعد ذلك في إيران.[2]
وفي كتابه “عبقرية عمر” تطرق إلى مسألة الفتح الإسلامي لبلاد فارس وحلل أوضاع تلك الإمبراطورية الكسروية قبيل الفتح الإسلامي وشرح أسباب انهيارها أمام قوات المسلمين قليلة العدد والعدة، وفعل ما لم يفعله مؤرخ أو باحث قبله بأن توصل إلى أن يزدجرد لم يسقط لضعف في جيشه أو تأخر في سلاحه؛ لكنه سقط أمام الإسلام لجهله التام بالتطورات الميدانية في شبه الجزيرة وعدم وعيه بالمتغيرات الاستراتيجية للعرب بعد أن من الله عليهم وبعث فيهم رسولا من أنفسهم زكاهم وعلمهم الكتاب والحكمة.[3]
ولقد أدرك العقاد أهمية فارس في الفكر بالشرق الأوسط وانخراط تلك البلاد في الثقافة العربية. مثلا: عندما أراد تأليف كتاب عن الشاعر الأحوازي الذائع “أبو نواس” عرف أن إيران فيها بعض المخطوطات القديمة التي تخصه فطلب شراءها من طهران بمئآت الجنيهات وأسند إلى أحد المترجمين ترجمتها من الفارسية إلى العربية، ولم ينقل منها إلا عبارة أو عبارتين في كتابه بالرغم من أن تلك التكلفة كانت ضخمة بالقياس إلى ذلك العصر.[4]
ولم يكتف العقاد بتلك المعارف الضخمة من المؤلفات والمخطوطات والوثائق المتعلقة بإيران بل حرص على أن تكون له خبرة ميدانية في هذا المجال، فأجرى مقابلة مع كبير البهائيين في عصره “الباب عباس أفندي عبد البهاء” وكان له معه حديث مطول عن الديانة البهائية ونشأتها في إيران، وبهذا سبق العقاد كل الباحثين الراهنين الذين تعلموا في قواعد البحث الجديدة أن المقابلات الميدانية لا تقل أهمية عن ـ بل هي أهم من ـ أحاديث الكتب والمؤلفات.[5]
وعندما وقع زلزال تأميم البترول في إيران على يد الدكتور محمد مصدق عام 1951 كان العقاد يتابع تطوراته عن كثب وامتلأت أحاديثه الصحفية وفي صالونه وفي المجالس التي كان يحضرها بالحديث عن نقلة مصدق الرهيبة على رقعة الشطرنج في إيران وكان يدرك تمام الإدراك أن تلك الوقائع لن تمر مرور الكرام على إيران وأن ما فعله مصدق سيؤدي إلى نقمة على الشاه حتى بعد أن انتصر وقام بانقلاب مضاد عرف في التاريخ بعملية أجاكس.[6]
وبعد أن استتب الأمر للشاه محمد رضا بهلوي شرع العقاد في بحث حياة الشاه الأب رضا خان ربما لمعرفة سر تفوق ابنه على مصدق، وكتب من ضمن ما كتب عن رضا خان أنه “كان يستيقظ في الخامسة فجرا وليس في المملكة موظفا كبيرا إلا ويتوقع منه دعوة في أي وقت من أوقات الليل أو النهار للحضور إلى القصر بعد خمس عشرة دقيقة”، وأذهب إلى أنه قد ركز في هذا البحث على علاقة رضا خان بآيات الله على اعتبار أنها محدد لعلاقة ولده محمد بآيات الله: كاشاني والخميني وغيرهما فيما بعد.[7]
توفي الأستاذ العقاد في يوم 13 مارس بالعام 1964 ولم يعاصر شدة الصراع بين آية الله روح الله الموسوي الخميني وبين الشاه محمد رضا بهلوي، ولم يعاصر كذلك مجد الشاه الذي تسيد حركة البترول الدولية اعتبارا من العام 1974 وأصبح وفق تعبير مجلة تايم الأمريكية إمبراطور النفط في العالم، ولم يعاصر كذلك كل التطورات المتلاحقة التي حدثت في إيران بما في ذلك الثورة الإيرانية وحرب الخليج الأولى وما لحق بها، ومن المؤكد أن هذا العقاد الباحث الخبير في الشؤون الإيرانية لو كان عاصر تلك المجريات ما وسعه إلا أن يذهب بعقله بعيدا في أفق إيران ليكتب للناس خلاصة حكمه على ما يكتنفها من تقلبات.
ـــــــــــــ
[1] موسوعة عباس العقاد الإسلامية، بيروت، دار الكتاب العربي، ط1، 1971، م4، ص584 وما بعدها.
[2] عباس محمد العقاد، الله، دار نهضة مصر، القاهرة، ط4، أغسطس 2005، ص57 وما بعدها.
[3] عباس محمود العقاد، عبقرية عمر، منشورات المكتبة العصرية، بيروت، بدون، ص104 وما بعدها.
[4] أنيس منصور، أوراق على الشجر، دار نهضة مصر، القاهرة، ط1، 2003، ص33. وانظر أيضا: عاشوا في حياتي، مكتبة الأسرة، القاهرة، ط1، 2002، ص591.
[5] أنيس منصور، في صالون العقاد كانت لنا أيام، دار نهضة مصر، القاهرة، ص475.
[6] المصدر السابق، ص323.
[7] محمد حامد محمد، مقالات عباس محمود العقاد، القاهرة، إبداع للنشر، ج2، ص8 وما بعدها.