باغتيال قاسم سليماني فقد حذفت الولايات المتحدة البطل القومي الذي اعتبر أهم قائد عسكري في إيران منذ عقود من معادلة الشرق الأوسط، بكل رصيده الاستراتيجي الذي كان يمثله للنظام الإيراني الذي يهيمن عليه الحرس الثوري، لكن رد طهران جاء أضعف من أقل السيناريوهات المتوقعة، فاتحًا الباب أمام تساؤلات الحاضر والمستقبل، التي سنحاول تحديد معالمها في السطور التالية.
مشروع وصل نهايته
في تقييم أهمية أي تحوّل في الشرق الأوسط ينبغي الوقوف أمام شخص المسؤول. هل هو في وسط مشروعه الأساسي أم في نهايته؟ أم أن المهم تنفيذه تحقق وبات من الماضي.
في حالتنا، كل الدلائل تشير إلى أن لمسة قاسم سليماني الذهبية بدأت في التخلي عنه قبل وفاته. الرجل وقع ضحية لنجاحاته، باتت كل المهام الصعبة توكل إليه بشكل مفرط بعدما أثبت فعالية فيما سبق.
ومع تزايد المهام تظهر الثغرات، وتتزايد الإخفاقات العملياتية.
بحلول 2019، ظهر الإرهاق على قاسم سليماني بشكل واضح، بينما بات مؤمنًا تمامًا بمعصوميته. يباشر المهام الرئيسة في الخارج بنفسه، ولا يثق في إسنادها لأحد سواه، بما يحمله ذلك من تعريض نفسه لفرص استهداف متكررة بينما يتنقل في جميع أنحاء المنطقة، من العراق إلى لبنان وسوريا واليمن.
كان يمكن لإيران تفادي اغتيال قاسم سليماني بشكل واضح، لكنه ـ كشخص مُجازف – اختار المخاطرة، وتحرك بالقرب من التجمعات الكبرى للأصول الجوية والاستخباراتية الأمريكية حول مطار بغداد الدولي.
إعادة ترتيب الأدوار
مقتل قاسم سليماني يمنح إيران فرصة لمعالجات ضرورية لمراكز القوى داخل بنية النظام السياسي الإيراني عبر تبديل مواقع بعض القيادات.
الاغتيال سيؤثر على عمل شبكة الحرس الثوري داخل إيران وخارجها، لأسباب فنية على الأقل، ترتبط باعتماد اجراءات احتياطية أكبر في التحرك وتنفيذ العمليات، بعدما غيرت الولايات المتحدة قواعد الاشتباك.
اختيار إسماعيل قاآني تحديدًا لوراثة سليماني يسير بهذا الاتجاه. الرجل كان نشطًا كسلفه في سوريا والعراق، لكنه عكسه، كان قليل الحضور في السياسة الداخلية. الاختيار يشير إلى أن نفوذ التيار الأكثر تشددًا بين النخبة السياسية في إيران يتصاعد، لكنه لن يكون رمزًا لشرور النظام داخليًا، كما ظهر سليماني في الاحتجاجات الأخيرة.
فإسماعيل قاآني خلفية القائد الجديد أنشطته العسكرية غير معروفة جيداً كتلك الخاصة بسليماني، فهو موضع خلاف منذ لحظة تبوءه للمنصب، حتى في التفاصيل الأساسية المتعلقة بولادته، فوفقاً للسيرة الذاتية الموجزة التي نشرتها “وكالة أنباء الجمهورية الإسلامية”، فهو من مواليد مشهد لكن “الحركة الخضراء” المعارضة تدّعي أنه وُلد في بجنورد.
ويشير تقرير الوكالة أيضاً إلى أنه وُلد في عام 1959، ما يعني أنه يناهز الـ61 عاماًـ لكن وزارة الخزانة الأمريكية قالت إنه وُلد في عام 1957 حين صنّفته إرهابياً في عام 2012 على خلفية دوره في تمويل شحنات أسلحة «فيلق القدس» إلى جامبيا. ولديه ابناً واحداً هو علي قاآني، الذي كان يدرس الهندسة الكهربائية في فرع “جامعة آزاد” في مشهد عام 2010 والذي تمّ اعتقاله لمشاركته في تجمعات مناهضة للحكومة في حرم الجامعة في مشهد عام 2009، وهو ادعاء نفاه والده.
وقد قال في مقابلة متعلقة بسيرته الذاتية نُشرت في عدد أكتوبر 2015 لصحيفة “رمز عبور” الإخبارية، إنه لم يلعب دوراً بارزاً في الثورة بقوله: “كنت حاضراً في الثورة كبقية الناس” خلافاً لتصريحات باقي رجالات النظام الذين يتغنون بمساهماتهم بالثورة.
ما يثير الاهتمام على نحو مماثل إقراره بأنه لم ينضمّ إلى صفوف الثوار على الفور، بل انخرط بدلاً من ذلك في الفرع المحلي لـ«الحرس الثوري» الإيراني الناشئ في مسقط رأسه خراسان في مارس 1980، أي بعد عام كامل على اندلاع الثورة، ولكن قبل أشهر قليلة من الحرب العراقية ـ الإيرانية، ففي ذلك الوقت، كان يتولى إدارة فرع الحرس الثوري في خراسان مجلس قيادي مؤلف من رجال دين شباب محليين، بمن فيهم علي خامنئي نفسه. وإن كان لا يوجد أي دليل على أنه كانت هناك علاقة مباشرة بين قاآني وخامنئي في تلك المرحلة، ولكن كان مقدّراً لهما أن يعرفا بعضهما البعض.
مع ذلك نشأت صداقة بين قاآني وسليماني على الجبهة الجنوبية للحرب في شهر مارس من العام 1982. وعلّق قاآني على هذه العلاقة في مقابلة أُجريت عام 2015 قائلاً: “نحن جميعنا أطفال حرب. فما يربطنا ويجمعنا نحن ورفاقنا ليس قائماً على الجغرافيا وعلى بلدتنا. نحن رفاق حرب، والحرب هي التي جعلتنا أصدقاء… أولئك الذين يصبحون أصدقاء في أوقات الشدة، تجمعهم علاقات أعمق وأكثر دواماً من أولئك الذين يصبحون أصدقاء لمجرد أنهم أصدقاء من الحي”.
وبرغم مشاركة قاآني في عمليات ناجحة على غرار “عاشوراء” في أثناء الحرب العراقية ـ الايرانية، و”والفجر 8″ التي تمّ بموجبها الاستيلاء على شبه جزيرة الفاو (9 فبراير – 29 إبريل 1986)؛ إلا أنه شارك أيضاً في هزيمة عملية “بيت المقدس 7” في مجنون (25 يونيو 1988) – في هزيمة يتحمل مسؤوليتها على الأقل جزئياً لأنه كان قائد الفرقة في ذلك الوقت.
في خلال تلك الحملات العسكرية، حظي قاآني بفرصة التعرّف على خامنئي الذي كان رئيساً آنذاك. وكونه من مواليد مشهد، غالباً ما كان خامنئي يزور فرقة “النصر-5” في الجبهة. وفور انتهاء الحرب، تمّت ترقية قاآني إلى نائب قائد القوات البرية للحرس الثوري.
وتظهر أول إشارة موثقة إلى خدمته ضمن فيلق القدس في نسخة عام 1993 من كتاب “التطرف الإسلامي: التهديد العالمي الجديد”، الذي عرّفه كقائد جماعة “أنصار” المندرجة ضمن «فيلق القدس» المسؤول عن أنشطة «الحرس الثوري» الإيراني في أفغانستان وباكستان والجمهوريات الآسيوية”. وربما عيّنه سليماني نائباً له بعد توليه قيادة الفيلق بين 1997 و1998.
وهناك تقارير تفيد أن قاآني قد تولى مسؤولية عمليات فيلق القدس في إفريقيا وأمريكا الجنوبية. فعلى سبيل المثال: حين سافر الرئيس محمود أحمدي نجاد من جامبيا إلى البرازيل في نوفمبر 2009 برفقة “200 من قادة رجال الأعمال”، كان قاآني ضمن الوفد، في خطوة مثيرة للجدل نظراً لأن البرازيل تعتبر «فيلق القدس» منظمة إرهابية. وبعد بقائه في البرازيل لمدة 24 ساعة، واصل الوفد جولته متوجهاً إلى بوليفيا وفنزويلا ثم عاد مرة أخرى إلى السنغال في إفريقيا.
وبحسب وسائل إعلام إيرانية، شارك قاآني في الحرب السورية بصفته مستشاراً عسكرياً، وكان من مُنظري مفهوم التشكيلات الشعبية ومهندسي تصديره للخارج. فهو يُعد أكثر ميلاً نحو التشدد مقارنة مع سليماني. وإن كان سليماني كان قائد مؤثر في فيلق القدس، فقد شارك قاآني على ما يبدو في الشؤون البيروقراطية والإدارية اليومية للتنظيم.
وقد يكون ذلك هو الهدف من وجوده في المنصب ففي السنوات الأخيرة، ونظراً لارتفاع معدل الوفيات في صفوف أفراد فيلق القدس في سوريا بالخصوص، فقد بدأت طهران بإرسال أفراد من الحرس الثوري النظامي إلى تلك البلاد، الأمر الذي أزال العديد من الحواجز بين الفرعين وحوّل تدريجياً «الحرس الثوري» بأكمله إلى قوة كبيرة واحدة تنفذ عمليات خارج الحدود الإقليمية.
لذا فسيكون على قاآني مسؤولية إعادة تنظيم الصفوف، والقضاء على المؤامرات والصراعات بداخل التنظيم أكثر منه تغييراً في خططه وسياساته، فهو وإن كان سيستمر على نهج سليماني، وسيتبع الخطط التي وضعت مسبقاً للتعامل مع القضايا المختلفة، وفقاً لبيان التكليف الذي صدر عن خامنئي، حين شدّد على “اتباع الخطط ذاتها المعتمدة في عهد سليماني، داعياً جميع الكوادر في فيلق القدس إلى التعاون مع القائد الجديد قاآني”.
رد محسوب وانتقام بارد
صحيح أن تصفية قاسم سليماني نقلت المتتالية الأمنية التصعيدية بين إيران والولايات المتحدة إلى مرحلة مختلفة، لكنها تزامنت مع لحظة وجدت فيها إيران نفسها مكبلة من كل اتجاه.
طهران متورطة في أزمة داخلية مع تواصل الاحتجاجات الشعبية المطالبة برأس النظام احتجاجًا على التردي الاقتصادي الذي غذته إدارة ترامب عبر سياسة الضغوط القصوى، ومتورطة كذلك في تطورات إقليمية طارئة مع استمرار الاحتجاجات الشعبية المنددة بنفوذ طهران الإقليمي في لبنان والعراق.
بالمقابل، كانت الولايات المتحدة بحاجة لإظهار أنها قوية بما يكفي لحماية أمنها القومي. وكانت بحاجة ملحة لاستعراض عضلاتها على المسرح الدولي مجددًا في لحظة حادة من تاريخ القوة.
ولعل اغتيال قاسم سليماني كان عرضًا عسكريًا يباهي بالقوة الأمريكية المنتشرة في 95% من بحار العالم، ووجهت إدارة ترامب من خلاله رسالة واضحة للداخل الأمريكي وللعالم كله، مفادها: ألا تهاون.
بمقدور القوة الأمريكية أن تلحق خرابًا مروعًا بإيران دون أن يلحقها أذى. هنا لم يكن أمام إيران خيارات، مجرد التفكير في إحداث أذى انتقامي يوازي حجم خسارتها يعني أنها ستخسر بقية اللعبة، خاصة بعدما ارتبكت كل حساباتها، ليس فقط بخسارة قائد بقيمة قاسم سليماني، بل بالتفاصيل التي قُتل بها.
العراق وحيدًا قد يدفع الفاتورة كاملة
الخبرة التاريخية تشير إلى أن التوترات المشابهة تزيد دوافع إيران للعب بورقة التفاوض. صحيح أنها ما زالت تشعر بأهمية مواصلة الانتقام، لكنها ستفعل ذلك كمنظمة إرهابية لا كدولة. لن تحرك جيوشها كما تفعل الدول في مواجهات عسكرية معلوم أبعادها وأهدافها، بل مرتزقتها وأذرعها في المنطقة.
هنا، قد يكون العراق الوجهة الأنسب؛ باعتباره الورقة الأقوى في يد إيران حاليًا، بعدما اعتبر خامنئي أن “سفك دماء القادة الإيرانيين والعراقيين يبعث على الفخر، ويرمز للرابطة غير القابلة للكسر بين البلدين”، بكل ما يحمله ذلك من إعادة رص صفوف التيارات الشيعية للقضاء على الاحتجاجات الشعبية أولًا، قبل إعادة ترتيب الأوراق وإعادة رص وكلاء طهران في مواقعهم.
قبل ذلك، تحتاج إيران لمعالجة الثغرات، وأهمها الإجابة عن سؤال: من في صفوف الحشد الشعبي قدم المعلومة للولايات المتحدة؟ بهذا الصدد، ستحتاج إيران وقتًا لمراجعة دائرة علاقات سليماني.