في صباح التاسع عشر من الشهر الجاري قال وزير الدفاع الإسرائيلي المنتهية ولايته، نفتالي بينيت، إن إيران بدأت في سحب قواتها من سوريا، حاثًا خليفته بيني جانتس على مواصلة الضغط على إيران في سوريا، إذ إن وجود القوات الإيرانية، وتلك المدعومة من إيران على مقربة من الحدود من إسرائيل هو بمثابة الخطر الكبير على أمن هذا الكيان، فهل شرعت إيران في سحب قواتها حقا أم أن هناك احتمالا آخر؟!
أولا: هل إيران تنسحب حقا من سوريا؟!
بالرغم من أن الوزير الإسرائيلي لم يقدم أي دليل يدعم قوله؛ إلا أن الضربات الإسرائيلية المتتالية على المواقع الإيرانية في العمق السوري قد تشي بأن إيران تفكر في العودة عدة كيلو مترات إلى الوراء تفاديا لتموضعها المكشوف أمام الطيران الإسرائيلي.
ويمكن قراءة ذلك في ضوء جملة من التطورات التي حدثت في خلال الأيام القليلة الماضية ومنها على سبيل المثال: أن الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله أكد أن إسرائيل تهاجم “كل ما يرتبط بتصنيع الصواريخ في سوريا”، وبالرغم من أنه شدد على أن حزبه لن ينسحب من سوريا تحت وقع الضربات الجوية الإسرائيلية؛ إلا أن الحقيقة يمكن أن تكون في اتجاه آخر.
وبرهان ذلك أن تل أبيب عمدت إلى تكثيف الضربات الجوية على المواقع الإيرانية في الأشهر الأخيرة، مع العلم أنها وجهت ست ضربات على الأقل في الأسابيع الثلاثة الأخيرة في سوريا ضد المواقع الإيرانية، وإذا أخِذ بعين الاعتبار بيان المرصد السوري لحقوق الإنسان الذي قال: “إن بعض الضربات الصاروخية أوقعت قتلى في صفوف مقاتلين إيرانيين وموالين لهم”، فإن النتيجة المنطقية أن تكون إيران بالفعل في طور الانسحاب أو على الأقل تتجهز للانسحاب التكتيكي من تلك المواقع على اعتبار أن هذا ليس انسحابا بالمفهوم الشامل بل هو “تحرف لقتال” كما ورد في القاعدة القرآنية.
وما يدعم هذا الاتجاه التحليلي نص البيان الإيراني الذي جاء فيه: “أنه لن يطرأ أي تغيير في كمية أو نوعية الوجود الاستشاري الإيراني في سوريا، لأن الوجود الإيراني في سوريا جاء بناء على طلب رسمي من الحكومة السورية للمساعدة في مكافحة الإرهاب”.
وقد يفهم من منطوق كلمة “الوجود الاستشاري” أن طهران تحاول تجيير الحديث للكلام عن موضوع آخر، وهو المستشارين العسكريين العاملين في ـ أو مع ـ الجيش السوري مباشرة، ولم تتطرق للحديث عن قواتها أو القوات المدعومة منها، ويأتي في طليعتها حزب الله والزينبيون والفاطميون.
إذن، فإن مسألة الانسحاب في محصلتها النهائية لن تخرج عن احتمالين: الأول أن يكون الانسحاب كليا من الأراضي السورية فعلا وهو أمر مستبعد، والثاني وهو الأجدر رجحانا أن تكون إيران قد شرعت في تخفيض عدد قواتها في بعض المواقع على ضوء خطة انسحاب جزئي استراتيجي تتوافق مع وضعها المالي المهترء بفعل العقوبات الأمريكية، وتداعيات جائحة كورونا على ميزانياتها العسكرية الخارجية، وموقف روسيا المخيب لآمال قادة الحرس الثوري.
ثانيا: حقائق الصراع الإيراني ـ الإسرائيلي في سوريا
ما من شك أن الأراضي السورية تشهد مناكفات إيرانية ـ إسرائيلية متواصلة، وقد شهد العامان الأخيران استهدافا إسرائيليا متكررا لعدد من الأهداف الاستراتيجية لإيران في العمق السوري. وتواترت في ذينك الشأن البيانات الإسرائيلية، كما أن سوريا أعلنت في العاشر من فبراير 2018 أنها أسقطت طائرة إف 16 إسرائيلية، وأن الطيارين الإسرائيليين اللذين كانا على متنها لم يتمكن من القبض عليهما أو توقيفهما.
ولعل تواتر تلك الأحداث يطرح سؤالًا مهمًا: ما الذي يحدث في العلاقات بين إيران وإسرائيل على الأراضي السورية؟ وما هي التفاعلات الناتجة عن هذه الاشتباكات؟ وما إذا كانت ستتطور إلى حرب شاملة وموسعة بين إسرائيل وإيران؟
الإجابة عن تلك الأسئلة تقضي بمعرفة أن هناك تفاهمات بين إسرائيل وبين إيران في هذا البلد، ويبدو أن هناك اتفاقات ـ غير معلنة بطبيعة الحال ـ بضمانات روسية بعدم تجاوز الخطوط الحمر لكل من للطرفين.
ومع ذلك فإن السياق العام لتطورات العمليات العسكرية في سوريا يشي بأن إسرائيل لا تقدم على قصف المواقع الإيرانية خاصة تلك المتعلقة بتجميع وتصنيع الصواريخ إلا بعد أن تتجاوز إيران الخطوط الحمر المتفق عليها ومنها على سبيل المثال: أنها (أي إسرائيل) تجمع معلومات استخباراتية تفيد بأن إيران تنتوي تحريك بعض ميليشياتها إلى مناطق قريبة من الجولان العربية المحتلة منذ العام 1967.
مع التأكيد بأن أي اقتراب إيراني من الجولان هو بالنسبة إلى تل أبيب خط أحمر لا يمكن تجاوزه. الأمر الآخر وهو في منتهى الأهمية، أن إيران تعمل بوتيرة سريعة لإنشاء مراكز قوى وقواعد ذات صفة استراتيجية داخل الأراضي السورية، تكون بمثابة محطات للإمداد اللوجيستي والعسكري لتلك الميليشات، وهي ميليشات حزب الله الموجودة في جنوبي لبنان؛ لذلك هي تريد تخفيض النفوذ الإيراني في سوريا، إلى جانب الخطوة الأخرى التي لا تقل أهمية عن ما سبق وهي ورود تقارير تفيد بأن إيران بدأت في إنشاء ما يشبه “حرس ثوري في سوريا مكون من شبان سوريين”.
ثالثا: العامل الروسي في الصراع الإيراني ـ الإسرائيلي
كل ما سبق يطرح الأسئلة المحورية التالية: ما علاقة ذلك بروسيا؟ وهل يمكن أن تتجرأ إسرائيل وتقصف مواقع حيوية في عمق دمشق دون أن يكون هناك اتفاقا ضمنيا مع روسيا؟!
الإجابة: بالتأكيد لا.
لأن روسيا هي المتحكمة في كل الأجواء الجوية السورية، ومن المعروف أن لها اليد العليا في هذا المضمار، وبالتالي لا يمكن منطقيًا أن تقدم إسرائيل على عمليات من هذا النوع وبهذا الحجم إلا بموافقة روسيا، إذ تعتبر روسيا ـ وهي أحلف حلفاء إيران ـ غير راضية عن الأداء الإيراني في سوريا، فهي ترى أن نفوذ طهران صار مقلقا لنفوذها المستدام في هذا البلد، خاصة أن إيران أبرمت في العام 2018 اتفاقية تعاون مع الجيش السوري مباشرة.
ولعل هذا ما يجعل طهران منافسا مباشرا لموسكو في المؤسسة العسكرية السورية؛ لذلك لا مانع لدى روسيا في وقوع بعض الضربات الجوية الإسرائيلية للحد من النفوذ الإيراني، مع الأخذ في الاعتبار أن هناك رصدا روسيا لتغير نسبي لدى بشار الأسد وقد أصبح أكثر ميلًا إلى اللاعب الإيراني وأبعد قليلًا عن اللاعب الروسي، بحكم أن الأخير لا يمانع من مغادرته السلطة على أساس آلية سوتشي.
وقد فهم من السلوك الروسي أن بوتين يرى بوضوح شديد أن إيران تجاوزت كل الخطوط الحمر، وأن الميليشيات الموجودة في سوريا تجاوزت التموضع المتفق عليه، وأصبح بشار أكثر ميلًا إلى إيران من روسيا؛ لا سيما أن إيران تتمسك بأن يكون بشار جزءًا أساسيًا من مستقبل أي تسوية سياسية، ولعل هذا ما جعله (أي بوتين) يستخدم إسرائيل كأداة عقابية لخفض نفوذ إيران في سوريا أو كما يقال “قصقصة ريش الطاوس الإيراني المنفوش”.
كما يشير مجموع تلك التطورات إلى أن إيران أصبحت أكثر بعدًا عن روسيا من أي وقت مضى، منذ انخراط الأخيرة حربيًا في سوريا يوم 30 سبتمبر 2015م، وهو الأمر الذي تحاول طهران وموسكو وحزب الله نفيه بين الحين والآخر، ومن ذلك تصريح أدلى به حسن نصر الله يوم 13 مايو الراهن نفى فيه وجود “أي تنافس على النفوذ في سوريا بين الحليفين إيران وروسيا”، وقال أمين عام حزب الله اللبناني إن “إيران لا تخوض معركة نفوذ مع أحد، لا مع روسيا، بمعزل عما تخوضه روسيا، ولا مع غير روسيا”، حتى مع تواتر التحليلات التي ترى بحتمية وجود صراع نفوذ بين موسكو وطهران، وسباق للحصول على عقود استثمار في مجالات عدة ـ لا سيما مجال إعادة الإعمار ـ بدمشق وغيرها من مدن سوريا.
رابعا: خاتمة ونتائج
تشير رؤية تحليلية أخرى إلى أن هناك مصلحة إيرانية، في أن تنخرط إسرائيل في هذه العمليات؛ جنيا لمكاسب إيرانية جيواستراتيجية. على سبيل التوضيح: عندما أرسلت إيران طائرة بدون طيار إلى الداخل الإسرائيلي في منطقة الجولان وما بعد الجولان مطلع العام 2018، لم يكن ذلك سوى محاولة لاستفزاز الإسرائيليين واستدراجهم إلى عمليات بطائرات إف 16 وغيرها، حتى يتم اصطيادها عن طريق منظومات الدفاع الجوية السورية، التي هي في الأساس مرتبطة ـ أو جزء من ـ بالمنظومات الروسية الموجودة في قاعدة حميميم.
كل هذا يعطي مؤشرًا عامًا على أن هناك تنسيقًا إسرائيليًا إيرانيًا في بعض الملفات في سوريا، لكن إيران تخالف بعض المتفق عليه في هذه التنسيقات والتفاهمات، لذلك لجأت إسرائيل إلى هذا النوع من العمليات، كما أن إيران من مصلحتها جر إسرائيل إلى صراع عسكري في تلك المنطقة لكسر الجمود في بعض من مناطق خفض التوتر ما بين كل المتقاتلين، خاصة في أعقاب الاحتلال التركي للشمال السوري وما ترتب عليه من تغيير في بنية المشهد برمته.
عليه يمكن القول إن:
1 ـ الضربات الجوية الإسرائيلية على مواقع تصنيع الصواريخ الإيرانية لن تتطور إلى معارك مباشرة بين تل أبيب وطهران.
2 ـ من استبعاد أن تلجأ إسرائيل لأي تطوير في استراتيجيتها العسكرية، بأن تتحول من العمليات الجوية إلى اجتياح بري.
3 ـ من المتوقع أن تستخدم تل أبيب سلاح الجو لعمليات أكثر عنفًا وحدةً تجاه منصات تجميع وصنع الصواريخ والمعدات العسكرية الإيرانية.
4 ـ أصبحت روسيا أقرب إلى مصالح إسرائيل من مصالح ايران، وأنها أصبحت حليفًا أكثر عمقًا لإسرائيل في المسألة السورية، أخذا في الحسبان أن روسيا لم تستخدم القواعد الإيرانية مثل مطار همدان منذ العام 2016؛ ما يعطي انطباعًا بأن إيران أصبحت ورقة غير مرغوب فيها روسيًا.
5 ـ لا تمانع موسكو في ألا يكون بشار الأسد جزءًا من مستقبل سوريا في أي تسوية مقبلة، وترى أنه من الأفضل لمصالحها أن يحل محله أي شخص آخر يقوم بالمهام التي تحقق تلك المصالح، خاصة أن المعارضة التي تجتمع مرارا في أستانة وجنيف وسوتشي صممت على عدم وجود بشار في مرحلة ما بعد التوافق.
6 ـ أصبحت سوريا المفاعل النووي السياسي والعسكري النشط والخصب للتوازنات الإقليمية والعملياتية، بحكم تعدد الجبهات وتعدد الأطراف المتقاتلة وتشابك وتشرذم مصالحها.
7 ـ سيكون بشار الأسد هو الخاسر الأكبر من أي خروج ـ أو انسحاب ـ لإيران من بلاده في ظل عدم قدرته على ضبط التوازنات الراهنة.