ارتفعت مؤخرًا نبرة العداء بين الولايات المتحدة الأمريكية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، بالتزامن مع ضربات أمريكية متكررة لمواقع تمركزات الحوثيين في مناطق اليمن الشمالية، إذ طالب ترامب بضرورة أن تتوقف إيران عن دعم الحوثيين من جانب، وأرسل إلى إيران عبر دولة الإمارات العربية المتحدة رسالة يطلب فيها التفاوض بشأن برنامجها النووي من جانب آخر، وهي الرسالة التي رأت إيران ضرروة أن ترسل ردا عليها عبر الوسيط التقليدي وهو سلطنة عمان، بدلًا من أبو ظبي، خاصة مع تحفظ إيران على وساطة الإمارات حيث وصفها وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي خلال حوار صحفي أجراه مع موقع “ديبلوماسي إيراني” بانه أمر مثير للريبة.
نظرة على موقف البرنامج النووي الإيراني
كشف أحدث تقرير صادر عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية عن ارتفاع وتيرة تخصيب إيران لليوررانيوم بنسب مرتفعة، إذ يقول التقرير الصادر في فبراير الماضي أن مخزون طهران من اليورانيوم المخصب بنسبة 60% والذي يتم تخزينه في صورة “سادس فلوريد اليورانيوم” قد ارتفع بمعدل 92.5 كيلو جرام في الربع الأخير من العام الماضي ليصل إلى 274.8 كيلو جرام، مقارنة بما كان عليه معدل المخزون قبل 3 أشهر حين وصل إلى 182.2 كيلو جرام، وهو ما يشير إلى تسريع إيران وتيرة تخصيب اليورانيوم بما يؤشر إلى عسكرة برنامجها النووي، ويطيح بتصريحات مسؤوليها عن سلمية برنامجها النووي.
ويؤشر تقرير الوكالة الذرية على أنه منذ بداية عام 2025 تعمل إيران بمعدلات غير مسبوقة من نشاطات تخصيب اليورانيوم بنسب كبيرة، ما جعلها تقف بكل قوة على العتبة النووية، وتنتظر فقط القرار السياسي للمرشد بإجراء الاختبارات النهائية المتمثلة في الوصول إلى نسبة الـ90% ومن ثم إجراء التفجيرات التجريبية ليتم الإعلان عن “إيران قوة نووية” خاصة وأن إيران تُشغّل 36 سلسلة من أجهزة الطرد المركزي من طراز IR-1 و42 سلسلة من الأجهزة المتطورة – IR-2m وIR-4 وIR-6 – في محطة نطنز لتخصيب الوقود النووي، ومعنى أن تستخدم إيران أجهزة الطرد المركزي من طراز IR-6 فإن ذلك يشير إلى تطوير مضاعف لقدرات إيران النووية التي نص عليها الاتفاق النووي الموقع عام 2015.
وطبقًا للتقديرات الفنية فإن اليورانيوم الإيراني المخصب بنسبة 60% يقلل المدة الزمنية للوصول إلى نسبة 90% وهو المستوى الذي يدخل في صناعة القنابل النووية، إذ يعتبر معهد العلوم والأمن الدولي في واشنطن أنه مع مزيد من التخصيب، يُمكن لهذه المادة أن تُغذي ما يصل إلى ثمانية رؤوس حربية نووية، خاصة وأن إيران أنتجت إيران كمياتٍ صغيرة من معدن اليورانيوم في مركز أصفهان للتكنولوجيا النووية. وأفاد المركز بأن إيران “أنجزت قدرًا كبيرًا” من الأعمال التحضيرية للتسليح، وهو ما يشير إلى أن إيران يُمكنها إنتاج ما يكفي من المواد الانشطارية لصنع سلاح نووي واحد في غضون أسابيع. وفي كل الأحوال فإن وصول إيران إلى تلك التكنولوجيا المتقدمة من تخصيب اليورانيوم وإنتاج المواد التي تدخل في صناعة القنبلة النووية تحتاج إلى الاستمرار في العمل من أجل النجاح في بناء الأجهزة التي تنتج الرؤوس النووية وضمان العمل بكفاءة ودمج الرؤوس في نظام إطلاق، وهي العملية التي قد تستغرق عدة أشهر، وهي العملية نفسها التي تعمل الولايات المتحدة على منع وصول إيران لها.
الخيارات الأمريكية في التعامل مع إيران
تنوعت الرسائل الأمريكية تجاه إيران خلال الفترة الماضية، وبعد فترة وجيزة من نجاح الرئيس الأمريكي – الجمهوري ورجل الأعمال الذي انسحب من الاتفاق النووي مع إيران – دونالد ترامب، إذ على الرغم من إرسالة رسالة إلى طهران يطلب فيها التفاوض المباشرلإبرام اتفاق نووي جديد تجب بنوده ما ذكر في اتفاق عام 2015، واشترط ضروررة تخلي إيران عن أحلامها النووية وتفكيك ميليشياتها في العراق ورفع يديها عن الحوثيين في اليمن، إلا أنه في موضع أخر أعلن احتمال لجوء الولايات المتحدة قصف إيران بعد أن ضغط بشكل مكثف على الحوثيين في مناطق اليمن الشمالية بقصف متتالي، كما أعلن البنتاجون عن إرسال حاملة الطائرات “كارل فينسون” لتنضم إلى حاملة الطائرات “هاري إس. ترومان” الموجودة في البحر الأحمر لردع الحوثيين أحد أذرع إيران في الشرق الأوسط، وهو ما يشير إلى استخدام ترامب لسياسة العصا والجزرة في التعامل مع طهران.
ويمكن أن تلعب الولايات المتحدة الأمريكية في معركتها مع إيران على تحقيق نوع من التوازن بناءً على خيارات عدة تأتي على النحو التالي:
1- سياسة الضغوط القصوى: وهي السياسة التي انتهجها ترامب خلال فترته الرئاسية الأولى، والتي توقع أن تتسبب في أوضاعًا اقتصادية ضاغطة على النظام الإيراني ما قد يخلق ضغوطًا على صانع القرار الإيراني لاتخاذ قرار الجلوس على مائدة التفاوض مع الولايات المتحدة لإبرام اتفاق نووي جديد، غير أن ترامب وجد أن إيران استغلت الوقت للوصول إلى نسب تخصيب عالية لليورانيوم ولتلقليص التزاماتها من الاتفاق النووي لتحسين ظروف التفاوض مع واشنطن، ولتتجنب العودة إلى نقطة الصفر، ولذا كانت استراتيجية الضغوط القصوى الأمريكية التي انتهجتها إدارة ترامب وبايدن غير ناجحة في إثناء إيران عن موقفها التصعيدي.
2- استهداف البرنامج النووي: في عام 2010 وقع أول هجوم سيبراني على منشأة نطز النووية الإيرانية، وهو الهجوم الذي استخدم فيه فيروس “ستاكسنت”، وقد تعرضت نفس المنشأة بعد عقد كامل الزمن وتحديدًا في الحادي عشر من شهر إبريل من عام 2021 لحادث مماثل إذ تعرّض مجمع نطنز النووي لحادث أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي، فور بدء المحطة في تشغيل مركز تجميع أجهزة الطرد المركزي المتقدم، لكن العملية لم توقف إنتاج إيران لليورانيوم عالي التخصيب، وهو ما كشفته التقارير الحديثة للوكالة الدولية للطاقة الذرية، علاوة على أن اغتيال أحد أبرز علماء البرنامج النووي الإيراني وهو محسن فخري زاده في عام 2020لم يوقف أيضًا وتيرة التطوير الإيراني للبرنامج النووي، وهو ما دفع إسرائيل والولايات المتحدة للتفكير في توجيه ضربة استراتيجية للمفاعلات النووية الإيرانية، وهو ما وضع محددات معينة للتعامل مع هذا السيناريو، وهي المحددات التي جاءت على النحو التالي:
أ- هناك تخوفات من فشل الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل في تنفيذ تلك العملية بسبب استثمارإيران في أنظمة دفاع جوي متعددة الطبقات لحماية هذه مواقع المفاعلات النووية، إذ زعمت طهران في شهر يناير الماضي أنها أسقطت قنبلة إسرائيلية خارقة للتحصينات باستخدام صاروخ دي-9، خلال تدريبات تحاكي هجومًا على منشة نطنز النووية، حيث كشفت إيران عن امتلاكها أنظمة دفاعات من طراز “تور” روسية الصنع، وتزعم أنها عدّلتها لاستهداف القنابل بدلًا من الطائرات أو الصواريخ فقط. وهو ما يضع سمعة السلاح الأمريكي في خطر إذا ما حدث هذا السيناريو.
ب – قد تفكر واشنطن في استخدام ذخائر متخصصة مثل القنبلة الخارقة للذخائر الضخمة من طراز (GBU-57 (MOP)، وهي قنبلة تزن 30 ألف رطل قادرة على اختراق أعماق الأرض لتدمير المراكز تحت الأرض، وهي قنبلة لا تمتلكها إلا الولايات المتحدة الأمريكية فقط، وأعطت إسرائيل طرازات قديمة منها كان أخرها طراز GBU-28، غير أن القنبلتين غير قادرتين على اختراق أهداف مدفونة تحت الجبال بعمق كبير مثل موقع المفاعلات النووية وتحديدًا موقعي نطنز وفوردو، علاوة على أن القنبلتين أثبتا فشلهما في إصابة مواقع تخزين الأسلحة الحوثية في اليمن خلال الضربات الأمريكية الأخيرة، وهو ما يعقد وصول واشنطن إلى المواقع الإيرانية الحساسة لتعطيلها.
3- الحرب الشاملة: وهو الخيار الذي يفترض أن تدخل واشنطن حربًا شاملة عبارة عن قصف جوي ومدفعي على إيران يعقبه تدخل بري، وهو أمر مستبعد لعدة اعتبارات أبرزها أن كاتب تلك السطور تحدث مع عدد من الأكاديميين والنافذين في الولايات المتحدة الأمريكية والذين أكدوا بشكل قاطع أن الشعب الأمريكي سيرفض أن يزج بأبناءه في حربًا مجهولة المصير مع إيران التي باتت على أعتاب التحول لقوة نووية، علاوة على صعوبة مسرح العمليات في إيران عن أي ساحة أخرى، بالإضافة إلى أن الرئيس الأمريكي نفسه لا يرغب في الدخول في حرب مفتوحة مع إيران، استنادًا إلى قبوله التفاوض غير المباشر مع إيران عبر وسطاء للوصول إلى نقطة التقاء بين الطرفين
4- التوقيع على اتفاق متوازن: وهو الحل الأبرز والذي قد يحدث على المستوى المتوسط وليس القريب العاجل، إذ تكمن الأزمة في أن إيران ترغب من واشنطن أن تعود إلى بنود الاتفاق النووي المبرم عام 2015، فيما يرغب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في التفاوض على تفاصيل جديدة لاتفاق نووي جديد لا ينص على إمداد واشنطن لإيران بمليار دولار كما كان ينص الاتفاق القديم، علاوة على تصفير المخزون الإيراني من اليورانيوم، ثم أن ترفع إيران يدها عن دعم وكلاء تابعين لها في الشرق الأوسط ممن يمثلون تهديدا على إسرائيل وفي القلب منها الحوثيين وحزب الله اللبناني والميليشيات العراقية وكذا ما تبقى من الفصائل الفلسطينية، بعد الضغط العسكري الإسرائيلي على قطاع غزة، وبالتالي فإن الخيار الأخير قد يكون هو الأقرب للحدوث على الرغم من صعوبة المراحل الأولى من التفاوض على المطالب الأمريكية الصعبة.
خاتمة
من المرجح أن تنتهز إيران الفرصة، وهي الدولة الماهرة في التفاوض، من أجل استثمار الدعوة الأمريكية للتوصل لاتفاق جديد مع إيران، وهو ما يمكن أن تستثمره إيران من أجل تخفيف الضغط الاقتصادي الواقع على الاقتصاد الإيراني، خاصة بعد ارتفاع نسبة التضخم في إيران إلى مستويات قياسية تجاوزت حاجز الـ 50%، علاوة محاولات إيران لتجنب الصدام المباشر مع واشنطن، خاصة بعد المعلومات التي نشرتها صحيفة “تليجراف” البريطانية مؤخرًا نقلًا عن مسؤول إيراني رفيع بأن إيران قررت سحب قواتها ومستشاريها من اليمن وتقليص دعمها للحوثيين، وهو ما يشير – إن صحت تلك المعلومات – إلى استجابة إيرانية أولية للمطالب الأمريكية، وهو ما يفتح الباب أمام احتمال توصل الجانبين إلى اتفاق مرتقب وهو الاحتمال الأرجح بين كل الاحتمالات.