يمثل إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد حلقة متصلة في التاريخ الدامي للأمة العربية والإسلامية التي تتداخل فيها عوامل السياسة مع المصالح الإقليمية والدولية المتشابكة والمنطقة الرمادية التي يقع فيها الرأي العام العربي دوماً، بحيث تتشكل رؤيته وانفعالاته اللحظية بالأحداث في تداخل فريد من نوعه بين العقلانية المحدودة والعاطفية غير الموجهه، ولذلك حديث طويل يحتاج لدراسة سيكولوجية الجماهير على غرار ما قام به المفكر الفرنسي جوستاف لوبون.
انكشاف أكذوبة التهديد الإيراني
يشكل سقوط نظام الرئيس بشار الأسد وسيطرة المعارضة تهديداً لمفهوم الأمن القومي العربي في ظل التدخلات الخارجية والأدوار المعروفة لتركيا وروسيا والولايات المتحدة، وذلك بصرف النظر عن المواقف الداخلية والرؤى التي تتواجد لدى الرأي العام داخل كل نظام سواء سقط أو مستمر في أداء مهامه.
اقرأ أيضا:
وعلى خلفية إسقاط تمثال الرئيس بشار الأسد في مشهد يذكرنا بسقوط تمثال الرئيس العراقي السابق صدام حسين، نجد أن اللافت هو أن تسلسل الوقائع بدءًا من حرب غزة للاغتيالات التي وقعت لقيادات محورية في فلسطين ولبنان، وخرق إسرائيل لوقف إطلاق النار في لبنان وصولاً للوقائع الجارية حالياً في سوريا يمثل تأييداً لفكرة انكشاف الغطاء الوهمي الذي وضعته القوى الدولية صاحبة المصلحة وإسرائيل للتعمية على التهديد الحقيقي المشهود.
يتمثل ذلك في التركيز على التهديد الإيراني للمنطقة العربية، بينما الواقع هو أن انكشاف الأمن القومي العربي عبر محاور سوريا وفلسطين ولبنان يسير بالتوازي مع الجهود الإسرائيلية لتفكيك محاور النفوذ الإيراني، وفي ذلك دلالة لافتة على حقيقة الخطر وأن الرابطة الإسلامية تتشابك مع الرابطة العربية وليست محل تعارض كما يتم الترويج له.
الدور الإيراني بعد سقوط الأسد
على الرغم من تصريح قائد عمليات القوات العسكرية في سوريا “أحمد الشرع” حول أن الرئيس بشار الأسد نشر المذهبية وترك البلاد مزرعة للأطماع الإيرانية، إلا أن ذلك يعطينا دلالة على المخطط الحقيقي والممول لما حدث على الأراضي السورية.
نجد أن الجهود الإسرائيلية لن تقلل من النفوذ الإيراني جذريا، أولاً لأن الأدوار التي تمارسها إيران في المنطقة العربية جزء من سياستها الثابتة المرتبطة بأمنها القومي، وثانياً لما نعرفه عن تقلبات السياسة والتحالفات المعلنة والسرية في ضوء الدور الإيراني وحجم تداخلاته التي يصعب تجاهل تأثيراتها على مجريات الأمور في المنطقة العربيةز
من ثم ستكون إيران دوماً حاضرة في إعادة ترتيب المشهد بسوريا، من دون تجاهل من الاطراف الدولية صاحبة المصلحة، والتي قامت بصياغة المشهد السوري في صورته النهائية على النحو الراهن والذي تمخض عنه رحيل الأسد عن سوريا وإعلان سقوط دمشق يوم 8 ديسمبر 2024.
كما يتجلى أن المستفيد الأكبر من الموقف الحالي كجزء من المخططات السياسية التاريخية هو إسرائيل دعماً لمكانتها المستقبلية كما تخطط لها داخل النظام الإقليمي العربي، فهي صاحبة المصلحة في الاستفادة من ثنائية خرافة الخطر الإسلامي المصنوع أصلاً في الخارج، وخطر المذهبية وإيران على النظم العربية.
إضعاف النظام الإقليمي العربي
في الإطار السابق نجد أن المصلحة الخارجية في إضعاف النظام الإقليمي العربي والذي يتم تنفيذه عبر سياسة ممنهجة تدعمها ثنائية خالدة في تكرارها نراها دوماً في كل تغيير سياسي وهي السعادة البدائية لزوال ما هو قائم، وعدم التحرك الرسمي العربي لمواجهة التداعيات الفعلية المعلومة والتي يتم تجاهلها لاعتبارات شتى، بما لها من أثر سلبي مستقبلي على الأوضاع السياسية والاقتصادية في المنطقة العربية.
اقرأ أيضا:
فالوضع القائم كما أشار له رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو أنه “يوم تاريخي” يستند إلى الهدف المزدوج الذي يتحقق لإسرائيل وهو تحقيق تواجدها السياسي وسط دول منكفئة على مشاكلها الذاتية منبتة الصلة بالدعاوى التاريخية للعروبة التي أصبحت مثار تعليقات غير جدية حول قيمتها منذ زمن طويل، بالإضافة إلى تغيير المعادلة والإطار العربي الذي تتحرك به إيران كخصم (معلن على الأقل) لها.
لكن يمكن القول إن توازنات السياسة لا تعرف التغيير الجذري ومن ثم نجد أن الدور الإيراني سيستمر وإن كان في توائم مع الوضع الجديد دون كسر حلقة الثوابت السياسية للدور الخارجي لإيران.
ففي نظرتها للوضع الجديد في سوريا، سيكون هناك عدة مقاييس حاكمة للدور الإيراني وهو الموقف الأمريكي من الأحداث في سوريا وقيام الإدارة الأمريكية بتقييم سلوك النظام الجديد في سوريا على حد تعبير الرئيس بايدن، علاوة على مصالح إيران التي ينبغي أن يتم الاستمرار في تدعيمها داخل المنطقة العربية.
خاتمة
يمكن القول إن مجريات الأحداث الحالية تتطلب من النظم العربية إعادة ترتيب أولوياتها بحيث يعلو الفكر العقلاني في علاقاتها مع الآخر ليتوازن مع اعتبارات المصلحة والسياسة التي تدفعها للتمسك بتوجهات ثابتة في مواقفها من إيران عبر عقود كما هو مشهود في العلاقات المصرية ــ الإيرانية على سبيل المثالز
بالرغم من الخطوات الأخيرة المتفرقة التي أعطت الانطباع بإمكانية حدوث تحسن نسبي صغير لكن الفكرة هي أنه من أساسيات الحفاظ على الأمن الإقليمي للمنطقة العربية، حتى من منطلق البديهيات وليس للدارس للعلاقات الدولية، هو أن يكون هناك تحديد لمصادر الخطر وأولويات التعامل معها.
ولنتذكر دوما أن خلق منطقة عربية تعاني من التفكك في التوجهات نحو مصادر التهديد وبطء عملي في اتخاذ القرارات، مع استمرار تحييد النظرة عن مصدر الخطر الحقيقي هو البوابة الرئيسية لتغيير النظام الإقليمي العربي إلى كيان لا يحمل من العروبة إلا اسمها، في إطار مشروع الشرق الأوسط الكبير متعدد المراحل والحلقات الذي تدرجت فيه الولايات المتحدة الأمريكية لتصنع من المنطقة العربية إطارا باهتا لصورة قوية واضحة وهي المشروع الإسرائيلي.