يحفل تاريخ إيران التفاوضي بما لا يمكن توقع حدوثه، ولعل هناك الكثير من الشواهد التي تدل على عدم إلتزام إيران بما أبرمته واتفقت عليه مع المجتمع الدولي في العام 2015، وبالتالي يصعب التكهن بإلتزام إيران بمخرجات مفاوضات فيينا الحالية، ما يشي باحتمالية تصعيد الموقف، في ظل تعثر المفاوضات التي تجري بين طهران والدول الكبرى بمشاركة غير مباشرة من الولايات المتحدة الأمريكية للعودة للامتثال لاتفاق نووي يقلص من قدرة إيران النووية.
وعلى الرغم من استمرار الأمل لدى دول الاتحاد الأوروبي وكذلك الرغبة العارمة لدى الولايات المتحدة الأمريكية في الوصول إلى لحظة “التوقيع” إلا أن المؤشرات تشي بأن إيران لا تريد الوصول إلى تلك اللحظة، خاصة بعدما نجحت في الوصول إلى العتبة النووية بتخصيب اليورانيوم إلى نسبة 60% بشكل معلن، وإنتاجها معدن اليورانيوم اللازم لتصنيع القنبلة النووية وتشغيل أجهزة الطرد المركزي المتطورة في مفاعلاتها الثلاثة المثيرة للجدل، وهي المناطق التي حرمت إيران الوكالة الدولية للطاقة الذرية من الوصول إليها لتفتيشها والوقوف على مستجدات الأوضاع فيها.
في هذا السياق يمكن الاستشهاد بالتصريحات الصادرة من الإعلام الرسمي الإيراني والتي تفيد بعدم صحة تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأن وصول إيران لنسب عالية في تخصيب اليورانيوم لأغراض عسكرية.
وعلى الرغم من الفتوى الصادرة من المرشد الإيراني علي خامنئي بحرمانية تطوير البرنامج النووي لأغراض عسكرية، إلا أن أصواتًا إيرانية متشددة دائمًا ما نادت وتنادي بضرورة أن تدخل إيران النادي النووي على الرغم من توقيع البلاد على معاهدة الحد من الانتشار النووي NPT لعام 1970، إلا أنه على الرغم من ذلك التوقيع الذي يسبق الثورة الإيرانية بتسع سنوات فقط، فإن البرنامج النووي الإيراني تطور بشكل كبير عقب التوقيع بعد الكشف عن وجود 3 مناطق سرية للأبحاث النووية.
بالإضافة لما كشفته المعلومات فيما بعد عن طلب إيران من باكستان تصميمات لأجهزة طرد المركزي من طراز p2، وهو ما أوضحته رؤية آية الله محمد تقي مصباح يزدي أحد أقطاب التيار المتشدد في إيران، والذي حين سُئل عن طريق الوصول إلى لحظة قيادة العالم الإسلامي فأجاب بأن ذلك لن يتأتى إلا من خلال “امتلاك السلاح النووي”.
لكن ما يثير الريبة حول إمكانية تعامل العالم مع إيران كقوة نووية ما كشفه اجتماع سري لمجموعة “آسبن” الإستراتيجية الأمريكية المكونة من عدد من رجال الأعمال النافذين في أمريكا بجانب مشرعين من الحزبين الجمهوري والديمقراطي وسياسيين، وقد أكدوا في خلال مناقشاتهم لعدد من الأمور الاستراتيجية المتعلقة بمستقبل الولايات المتحدة الأمريكية إمكانية التعامل والتعاطي مع إيران كقوة نووية في المستقبل.
ولعل هذا هو الطرح الذي وضعه عدد كبير من المجتمعين على مائدة هذا اللقاء في ظل تعثر المفاوضات الجارية في قصر “كوبورغ” في وسط العاصمة النمساوية فيينا.
يضاف إلى ذلك الشرط الصعب الذي وضعه المفاوض الإيراني على مائدة المباحثات بضرورة إيقاف التحقيقات التي تجريها الوكالة الذرية حول تطور البرنامج النووي الإيراني، وهو ما يفتح الباب أمام احتفاظ إيران بما وصلت له من تكنولوجيا تؤهلها في المستقبل القريب أو المتوسط لأن تكون على حافة الامتلاك للسلاح النووي إذا ما اتخذت القرار السياسي المؤدي لذلك التطور.
بالتالي سيكون سلاح إيران في التفاوض على تلك النقطة هو “النفط” الذي باتت تتعاني الأسواق الدولية من ندرته في ظل الحرب الروسية ــ الأوكرانية وما خلفته من تبعات تعطش الأسواق العالمية للنفط والغاز، وهي الوسيلة الوحيدة التي تلعب بها إيران في حربها التفاوضية مع الدول الكبرى.
وقد كانت هناك العديد من الدلالات التي كانت تشير في بداية الأمر إلى خطأ الولايات المتحدة الأمريكية الاستراتيجي بالانسحاب من الاتفاق النووي في مساء 8 مايو من عام 2018، وهو الانسحاب الذي أعطى لإيران الفرصة للرد على واشنطن باللجوء إلى خطة الانسحاب المتدرج من خلال تسريع وتيرة العمل على تطوير البرنامج النووي بشكل مباشر وسريع.
وهو الأمر الذي حدا بالكثير من المفكرين والفلاسفة الإيرانيين والغربين على حد سواء بالتضامن والتوقيع على دعوة موجهة إلى فيديريكا موجريني مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي في ذلك الوقت وبالتحديد في عام 2020 للمطالبة بحماية الاتفاق النووي، وكان على رأس هؤلاء الفلاسفة والمفكرين الفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي، والفيلسوف الإيراني الشهير عبد الكريم سروش، والفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك، وغيرهم، حيث وصلت التوقيعات إلى 170 توقيع.
لكن أزمة الولايات المتحدة الأمريكية في التعامل مع إيران كقوة نووية يتمثل في أمرين لهما من الوجاهة ما يجعل مراكز الفكر الإستراتيجية الأمريكية تسعى من جانبها لمحاولات تقويض برنامج إيران النووي وهما:
أولًا: الرغبة الإسرائيلية في تقويض برنامج إيران النووي حتى تصبح تل أبيب هي القوة النووية الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط أو المنطقة العربية بالكامل.
ثانيًا: الخوف الأمريكي من سباق تسلح في المنطقة العربية، إذ إن حصول إيران على السلاح النووي يفتح الباب على مصراعيه أمام سباق تسلح عربي كبير، وهو ما وضعه اجتماع مجموعة “آسبن” في الاعتبار، وحصروا مخاوف سباق التسلح النووي في دولتين مهمتين في المنطقة العربية وهما “مصر والمملكة العربية السعودية”.
أما عن التوترات الإيرانية الإسرائيلية حيال البرنامج النووي الإيراني، فقد كشفت وقائع التاريخ إن العلاقات الإيرانية ــ الإسرائيلية لم تمر بمراحل توتر خلال الأعوام السابقة على تأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية حيث كان الشاه أحد أهم أصدقاء إسرائيل والولايات المتحدة، أما فيما بعد الثورة الخمينية عام 1979، فقد استعانت إيران بالسلاح الإسرائيلي في حربها على العراق طبقًا لما كشفته وثائق “إيران كونترا” الشهيرة، هذا من جانب.
ومن جانب المقاومة والدعم الإيراني لما يتعلق بـ”فلسطين المحتلة ودعم القدس” وغيرها من الشعارات الرنانة التي تسخدمها إيران لتبرير دعمها للمقاومة الفلسطينية فإن المفاجئ أن الكتب المعتبرة للشيعة لا تجعل هناك قدسية للمسجد الأقصى بفلسطين، حيث تشير بعض كتب التفاسير والتي من أبرزها كتاب “البحار” للعلامة محمد باقر تقي المجلسي، وكتاب “تفسير الصافي” للمولى محمد محسن المعروف بـ”الفيض الكاشاني”، وكذلك كتاب “تفسير نور الثقلين” لعبد علي العروسي الحويزي إلى أن المسجد الأقصى موجود في السماء الرابعة وليس في أرض فلسطين، طبقًا لتفسيرات الشيعة حول معجزة الإسراء والمعراج.
من هذا المنطلق لا يكون هناك تبريرًا موضوعيًا للعداء مع إسرائيل من منطلق ديني من الأساس، ليبرز بعد ذلك نوعًا جديدًا من التوافق بين إيران والقوى العالمية بما فيها إسرائيل حول مسألة التفاوض على مكتسبات من نوع آخر، هذه المكتسبات قد تنحصر في إتاحة الفرصة لإيران لأن تكون قوة نووية، في ظل نوع من التوافق حول الدور الإيراني في الإقليم مع بعض الضوابط التي تسهل عملها في إطارها الجديد.
وهو الأمل الأخير لكل من إيران والدول الكبرى من المفاوضات الجارية، غير أن إيران استمرت في تلك المفاوضات بعد أن تعلمت الدرس من فترة الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد، والذي خاطب العالم بتعالٍ شديد وهجوم متتالٍ واستعلاء جعل من الحرس الثوري يتقدم بورقة سياسات للمرشد يطلب فيها تشكيل مجلس استشاري للرئيس نجاد بسبب عدم خبرته في التعاطي مع الأمور الاستراتيجية والخارجية وبالتحديد في الملف النووي الإيراني وهو الأمر الذي استجاب له المرشد.
خاتمة
لعل مستوى الجهل بمعلومات وحقائق دقيقة حول البرنامج النووي يتزايد يومًا بعد يوم لدى المجتمع الدولي ولدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية نفسها، وهي التي سبق أن اشتكت من منعها من تفتيش مواقع بعينها من قبل السلطات الإيرانية، ما يفسر عدم إلمامها بالكثير من المعلومات والحقائق اليقينية حول وصول إيران للعتبة النووية وامتلاكها التكنولوجيا والمواد اللازمة لتصنيع القنبلة النووية.
التطور في برنامج إيران النووي ووصول إيران لامتلاك السلاح النووي يهدد بقاء اتفاقية الحد من الانتشار النووي ويفتح الباب أمام انهيار المعاهدة من الأساس أو انسحاب بعض الدول منها أو بدء سباق تسلح في منطقة الشرق الأوسط.
ولعل امتلاك إيران للسلاح النووي أو حتى وصولها للعتبة النووية هو جرس إنذار للدول العربية بأن تكون على أتم اليقظة الأمنية الصارمة، في ظل وجود تحول جديد في المنطقة، وهو التحول الذي يفتح الباب أمام عدم الإيمان المطلق أو الثقة المطلقة من الدول العربية في التعاطي الأمريكي مع المتغيرات الجديدة.
إن امتلاك إيران للسلاح النووي مهدد لاستقرار المنطقة خاصة في ظل دعم إيران لوكلائها وإعلانها استعدادها لدعم هؤلاء الوكلاء بالتكنولوجيا الجديدة كما دعمت الحوثيين بصواريخ باليستية متطورة.