يشغل البعد الثقافي والحوار الحضاري بين الدول مكانة ثانوية في التاريخ السياسي بوجه عام وهو أمر مؤسف بقدر ما هو واقعي، وذلك في تجاهل صريح لما يمثله الحوار والتفاهم على أساس الأرضية المشتركة من فوائد سياسية واقتصادية بالمقارنة مع الدوائر المفرغة التي تدور فيها الدول على المستوى السياسي والإقليمي نتيجة للصراع.
وفي أبسط الصور ذات الدلالة الواضحة، يشهد المتابعون لتطورات الأحداث السياسية الإقليمية والعالمية حلقات متسلسلة من القضايا الأساسية التي تبدو وكأنها لا تنتهي استناداً إلى مبدأ الصراع والتنافس والخلاف في الرؤى لمفاهيم الأمن والسلم والمصالح السياسية إلى آخره.
وإذا ما تم النظر إلى إيران، يمكن القول إنها صاحبة تجربة سياسية في مطلع الألفية الثالثة خلال عهد الرئيس الأسبق محمد خاتمي ودعوته الشهيرة للحوار بين الحضارات لكن الإطار العام للمشهد السياسي الإيراني وتفاعلاتها مع دول الجوار يتسم دوماً بالنمط القائم على الصراع وفرض النفوذ وربما تمثل رغبة إيران في أن تكون “شرطي الخليج” عنصرا من عناصر الاستمرارية والإرث التاريخي منذ عهد الشاه ما قبل الثورة الإيرانية.
الثورة الإيرانية وإعادة تعريف الذات
يسعي النظام دوماً، خاصة في مرحلة ما بعد التغيير السياسي، إلى بلورة خطاب جديد للعالم من خلال إعادة تعريف الذات ومراجعة طريقة التعامل مع “الآخر” على المستوى الإقليمي والدولي.
فرضت الثورة الإيرانية في بداياتها تساؤلات عديدة حول علاقة الإسلام بالتحديات العلمية والاجتماعية المعاصرة، ومدى الموائمة بين الديمقراطية البرلمانية وبين الإسلام، وكيف تكون مواجهة الغرب.
ويمكن القول إن “الدين لم يكن أبداً المصدر الوحيد لأيديولوجية الثورة بل يُعتبر أحد روافدها فقط” وبالتالي يرى المتابعين للشأن الإيراني أن التنوع في المصادر الفكرية هو أحد أبرز السمات الرئيسة للخريطة الإدراكية الإيرانية، وهو ما تبدو دلالته التنفيذية واضحة من خلال الدور الذي تلعبه إيران في المنطقة وجهودها في الملف النووي وغيره، وهي أمور قائمة على البرجماتية والواقعية في السلوك والفكر بأكثر مما هي قائمة على “الدين”.
بالتالي فإن النظرة الأكثر دقة للمؤثرات الثقافية على فكر النظام الإيراني تتصل بالإيمان بدور كل من الحضارة الغربية والتراث الفارسي والديني في بلورة هذا الفكر داخل خليط متجانس أنتج الواقع الحالي للمشهد السياسي الإيراني.
حوار “مُسيس” أم بهدف الفهم المشترك
يدفع الواقع السياسي الدولي دوماً في اتجاه التحليل للمشهد بناءً على مفهوم المصالح السياسية التي يدخل في إطارها الفهم المتبادل والتعرف على ثقافة الآخر، فالمصلحة السياسية يتبعها التعاون الثقافي وليس العكس، وهو ما ينطبق على كل الدول بما فيها إيران في حالة حدوث أية تفاعلات مستقبلية بينها وبين دول الجوار أو دول النظام الإقليمي العربي بوجه عام.
ولا تتصل تجربة الحوار بين الدول فقط بالدور المنوط بالأنظمة ولكن بأدوار الفاعلين من غير الدول كالمجتمع المدني وغيره، وهو بالطبع ما يعتبر بمثابة “الحلم المؤجل” بين إيران وبين دول النظام الإقليمي العربي في ظل التطورات السياسية الجارية والاستنفار الدولي الموجه دوماً ضد إيران.
تساهم الولايات المتحدة الأمريكية بالأساس في بلورة إيران في صورة الدولة “غير الموائمة لمفهوم الأمن والتعاون” ووضعها في خانة “التهديد”.
تعتبر إيران حاليا ــ على الرغم من تعدد صور التعاون الاقتصادي والعسكري القائمة بينها وبين دول الجوار ودول وسط أسيا وغيرها ــ على المستوى الإدراكي بمثابة “تهديد” في وعي الكثير من المتخصصين والمتابعين للتطورات السياسية على حد سواء بصرف النظر عن درجة الوعي السياسي والثقافي لديهم.
من ثم فمفهوم “التهديد” المرتبط بإيران يقف عقبه أمام فكرة الحوار، وذلك في ضوء أن الأمن الصلب hard security (والذي يشمل الجوانب الاستراتيجية والعسكرية والسياسية) ينعكس بالضرورة على وضع الأمن الناعم soft security والذي يشمل العنصر الثقافي علاوة على الجوانب الصحية والبيئية والإنسانية والغذائية إلى آخره.
إيران بديل “للتهديد” الإسرائيلي
يري الكثير من المحللين أن النجاح الإيراني الحالي في اختراق الأمن الإقليمي العربي لم يرتبط فقط بالقدرات الإيرانية ولكنه ارتبط في جانب كبير منه بطبيعة “الواقع العربي الحالي المفكك” الأمر الذي أتاح لإيران فرصاً أوسع للمناورة وفراغاً تقدمت هي لتغطيته.
عليه فإن صناعة التهديد الإيراني كانت “بقوة دفع أمريكية” وبناءً على المخاوف العربية في ظل واقع يموج بالصراعات، وتسيطر عليه قوى إقليمية بدعم خارجي، بحيث يمكن الحديث عن “الوجود الإسرائيلي في سوريا وفلسطين ولبنان بغطاء أمريكي، ونفوذ إيراني في العراق ولبنان نتيجة لأخطاء أمريكية وخارجية سمحت بذلك الدور.
من ثم يجد المراقب أن النظام الدولي المفتقر للتوازن ومعايير العدالة بالأساس أسهم في تآكل الحدود التي كانت قائمة فيما يخص التفاعلات بين النظام الإقليمي العربي من جانب ودول الجوار من جانب آخر، فتحولت كل من إيران وإسرائيل – مع اختلاف الطبيعة والسياق بالضرورة ــ إلى فواعل رئيسة في التطور السياسي والاستراتيجي للمنطقة العربية بوجه عام.
فلكل من إيران وإسرائيل دوافع للتوسع وامتلاك القوة، فإسرائيل بطبيعة الحال تنظر بعدم اطمئنان إلى البيئة العربية المحيطة برغم حالة السلم القائمة منذ عقود بين الدول العربية وإسرائيل على المستوى الرسمي بالإضافة إلى قوة الدفع الأمريكية.
على الجانب الإيراني تدرك النخبة الإيرانية التهديد الاستراتيجي من البيئة المحيطة منذ الحرب الإيرانية ــ العراقية خلال حقبة الثمانينيات من القرن الماضي كما أن مفهوم تصدير الثورة منذ 1979 كمفهوم نظري مجرد قد أزكى “ثورة الشك العربية” وأعطى العرب دليلاً على استمرارية النزعة التوسعية الفارسية حتى اليوم.
لكن ما لا شك فيه أن الدور الأمريكي ومواقف الكثير من الدول في المنطقة العربية لعبت دوراً في إعلاء الخطر الإيراني على التهديد الإسرائيلي على الرغم من الإرث التاريخي الذي تحمله الأمة العربية تجاه إسرائيل والذي لا يمكن مقارنته من حيث الدلالات السياسية والإنسانية بمحتوى العلاقات الإيرانية ــ العربية.
الوعي الجمعي العربي
تتضافر العديد من العوامل لتعظيم الخطر الإيراني في الوعي العربي والدولي ومنها الثورة التكنولوجية في نقل الأخبار والتطورات اليومية على نحو متلاحق، علاوة على عنصر لا يقل خطورة وهو تخلخل ركائز الوعي لدى الشعوب نتيجة لغياب البعد الثقافي الذي يتم تأسيس العقلية الناقدة الموضوعية بناءً عليه.
فالوعي السطحي موجود بكثافة بحكم التطور في تقنيات نقل الحدث بوجه عام لحظة بلحظة، ولكن يختلف ذلك عن وجود الرؤية النقدية لما يحدث ونسيان الشعوب بطبيعتها “آفة حارتنا النسيان على حد تعبير الأديب الراحل نجيب محفوظ”.
نتيجة لعدة عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية اكتسبت الشعوب “مفهوم المصلحة والانفعال اللحظي” وبالتالي يمثل ذلك ركيزة يفهمها صُناع القرار على مستوى العالم، وتقوم القرارات الدولية والاقليمية على أركانها.
في هذا السياق يمكن استدعاء وصف قديم للأديب المصري محمد المويلحي في “حديث عيسي بن هشام” التي كتبت في أوائل القرن العشرين، ويا للمفارقة في تكرار الصورة العامة من عصر لآخر حين قال ما معناه: “إن الناس اكتفت بحوادث يومهم، فتعطلت بينهم مجالس العلم، واقتصروا على مطالعة أخبارهم في الجرائد والصحف دون الدفاتر والكتب، وهم لا ينصتون إلى قصة متصلة ولا يعجبهم إلا ما كان متقطعا مبتوراً أو مقتضباً”.
وكأن الحديث يدور عام 2021، في دلالة على المراحل المتكررة لانقطاع الوعي الإيجابي لدى الشعوب والذي يمثل خلفية لمشهد سياسي إقليمي لا يخفى على أحد حجم ما فيه من تخلخل لكل القيم، وتكرار لمواقف وأخطاء تاريخية سابقة تُحفز على استمرارية الصراع من دون الحوار البناءً المرتبط بالآمال المستقبلية أكثر منه اتصالاً بالواقع الراهن.