على مدى عشرة أشهر نشبت مناوشات مسلحة بين إسرائيل وحزب الله اللبناني، حيث عمل الأخير على أن يكون جبهة إسناد ودعم للفصائل الفلسطينية بعد اندلاع عملية “طوفان الأقصى” في أكتوبر من العام الماضي، وهو ما زاد من حدة العمليات المسلحة بين حزب الله وتل أبيب، وهو الصراع الذي أعاد للأذهان المناوشات التي تمت بين الجانبين منذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي بجولات من المواجهة العسكرية وتكتيكات ردع متبادلة، أسمهت فيها إيران بدعم كبير لحزب الله خلال حرب 2006 على وجه التحديد.
وبعد هجمات حزب الله الأخيرة، أعلنت إسرائيل عن إطلاق عملية “سهام الشمال”، وهو ما يشير إلى نقل إسرائيل نطاق الحرب من الجنوب في قطاع غزة إلى الشمال على حدود جنوب لبنان، كبادرة لحرب شاملة ضد أذرع إيران في الإقليم.
وقد فرضت تلك الحالة ضرورة البحث في ماهية المحددات الداخلية والخارجية لفكرة التصعيد الإسرائيلي مع الجبهة اللبنانية، والمدى والطبيعة المحتملة للعملية الإسرائيلية تجاه لبنان، وما إذا كانت الحرب تحولت من غزة إلى لبنان، وكيفية تعاطي حزب الله اللبناني مع هذا التصعيد في ظل تلك التعقيدات، ومدى الدعم الإيراني للحزب وحدوده في الفترة المقبلة.
أولًا: المحددات الداخلية للحرب
الأزمة الاقتصادية: يعتبر الوضع الاقتصادي المتردي في لبنان سبب رئيس يقود البلاد لعدم الدخول في حرب مفتوحة وشاملة مع إسرائيل، إذ تعاني الدولة اللبنانية منذ عام 2019م من أزمة اقتصادية حادة تفاقمت بالتزامن مع انفجار مرفأ بيروت عام 2020م، ما مثل عائق أمام لبنان للدخول في حرب مع إسرائيل، كما زاد من حدة الأزمة سوء الإدارة المالية، ما جعل البنك الدولي يصف الأزمة الاقتصادية في لبنان بأنها أشد الأزمات منذ منتصف القرن التاسع عشر.
وكان انعكاس ذلك أن فقدت العملة أكثر من 95% من قيمتها، وارتفع التضخم إلى نسبة 231.3% في عام 2023، بالإضافة إلى تفاقم معدل البطالة من 11.4% في العام 2019 إلى 29.6% في عام 2022، وارتفع معدل الفقر في لبنان أكثر من ثلاثة أضعاف خلال العقد الماضي إلى 44% من مجموع السكان، وعليه يزيد إشعال جبهة لبنان الإضرار بالقطاعات المختلفة سواء بتوقف السياحة كما حدث عقب حرب 2006، بالإضافة إلى هجرة العمال والشركات الدولية العاملة بها، فضلًا عن تدمير البنية التحتية.
أزمة الفراغ السياسي: وفق الدستور اللبناني فإن قرار الحرب يتم بموافقة أعضاء الحكومة، وبحضور رئيس الجمهورية، إلا أن لبنان يعاني من الفراغ الرئاسي منذ 31 أكتوبر 2022، وقد ساهمت تركيبة البرلمان الحالي في عدم امتلاك أي من القوى السياسية الأغلبية المطلقة، ولم تستطع أي كتلة إيصال مرشحها إلى الرئاسة دون التوافق مع باقي الكتل الأخرى، إذ ساهم عدم التوافق حول مرشح واحد في إطالة أزمة الشغور الرئاسي، والتي تجعل من قرار الدخول في حرب أمر مخالف للمادة 65 من الدستور اللبناني، وهي المادة التي تنص على: “قرار الحرب يتم بعد اجتماع مجلس الوزراء، وبرئاسة رئيس الجمهورية، وبموافقة ثلثي أعضاء الحكومة المحدد في مرسوم تشكيلها”.
الرفض الشعبي لقرار الحرب: تسود في لبنان حالة من الرفض الشعبي لقرار الحرب ضد إسرائيل للاعتبارات السابقة، إذ أشار استطلاع للرأي أجرته مؤسسة “البارومتر العربي” إلى أن شعبية حزب الله في عدة مناطق من لبنان متراجعة، لكنه يحظى بشعبية كبيرة في المناطق التي يسيطر عليها في جنوب وشرق لبنان، كما يثق به نحو 85% من الشيعة في لبنان، و9% من السنة والدروز، و6% من المسيحيين، وهو ما يشير إلى أن قرار توسع الحرب من جانب حزب الله بها مخاطرة لفقدان نفوذه السياسي داخل الدولة.
ثانيَا المحددات الخارجية:
قلق دولي من توسع النزاع: علي الرغم من الدعم الأمريكي الكبير الذي قدمته واشنطن لإسرائيل في حربها على غزة، إلا أن الولايات المتحدة دائمًا ما تطالب بعدم التصعيد الذي قد يتسبب في إتساع رقعة الصراع، خاصة مع عدم قدرة واشنطن على ضبط السلوك الإسرائيلي بعد توسع جبهة لبنان، وبالتالي ظهرت واشنطن وكأنها غير قادرة على احتواء التوترات، وهو ما أضعف صورتها كقائد دولي وضابط للأمن العالمي والإقليمي.
الموقف الإيراني: لا ترغب إيران في توسيع رقعة الحرب، وتحاول في الوقت ذاته تحقيق أكبر قدر من المكاسب في سياق تلك التوترات الإقليمية سواء بالنسبة للملف النووي الإيراني أو في إطار تخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، وفي مقابل ذلك اتخذت إسرائيل إجراءات احترازية ضد إيران بشكل مباشر ووكلائها بشكل غير مباشر، وتستعد للرد على أي هجوم مباغت في أي وقت.
إستراتيجية الصدمة:
خلال الأيام القليلة الماضية إعتمدت إسرائيل على ما يمكن تسميته بـ”إستراتيجية الصدمة”، بمعني توسيع نطاق العمليات العسكرية بشكل يسبب حالة من الإرباك الداخلي للحزب، وقد تجسد ذلك في مجموعة من المؤشرات الرئيسية وهي:
1- تفجيرات أجهزة “البيجر” يومي 17 و18 سبتمبر الماضي.
2- استهداف الذي حدث لأحد المباني بالضاحية الجنوبية لبيروت في 20 سبتمبر، خلال اجتماع لمجموعة من القادة العسكريين للحزب، ما أدى إلى مقتل قائد فرقة الرضوان إبراهيم عقيل، وأحمد وهبي القائد السابق للفرقة.
3- هجوم 23 سبتمبر الواسع على المنطقة الجنوبية اللبنانية والبقاع الغربي.
4- استهداف الضاحية الجنوبية لبيروت في عملية قالت إسرائيل إنها استهدفت علي الكركي القائد العسكري لقطاع الجنوب في حزب الله، وأدت هذه العملية إلى مقتل نحو 558 مواطن لبناني بالإضافة لإصابة نحو 1835 شخصًا.
5- هجوم إسرائيل صباح اليوم 24 سبتمبر 2024 على أحد المباني السكنية في بيروت.
ويتضح من خلال هذا التصعيد النوعي المتلاحق أن إسرائيل ترغب من خلاله إلى تحقيق مجموعة من الأهداف الرئيسية وهي:
استنزاف قدرات حزب الله: وهو الهدف الرئيس من استمرار حرب إسرائيل على حزب الله، فقد واصل الجيش الإسرائيلي هجماته ضمن عملية “سهام الشمال” على هذا الأساس، ومن أجل محاولة تغيير الواقع الأمني للحدود الشمالية، وتسبب ذلك الهدف في أن حولت إسرائيل نظرتها لجبهة الشمال من جبهة ثانوية إلى جبهة رئيسية؛ ما تجسد في إعلان المستوى الأمني الإسرائيلي عن الدخول في مرحلة جديدة فيما يتعلق بجبهة الشمال، جنبًا إلى جنب مع الإعلان عن نقل الثقل العسكري من الجنوب إلى الشمال، وكذا الإعلان عن نقل اللواء 98 في الجيش الإسرائيلي إلى الشمال، حيث تقول إسرائيل إنها تسعى لتطويق ما يعرف بـ “الهلال الشيعي” بالمنطقة، لإضعاف قدرات إيران، وقد تجسد ذلك في التصعيد بلبنان، والعمليات في سوريا، والعمليات ضد الحوثيين وخصوصًا في ميناء الحديدة اليمني.
تدحرج كرة الثلج: يتمثل ذلك في تراجع وتيرة العمليات القتالية داخل القطاع، ومن هنا بدأت إسرائيل في نقل كرة الثلج الخاصة بالحرب إلى ساحة أخرى وهي جبهة الشمال، خاصة وأن التحركات الإسرائيلية تقوم على رؤية مفادها ضرورة تحييد التهديدات القادمة من الحدود وفرض أمر واقع جديد بهذه المناطق، كما تستهدف إسرائيل فك الإرتباط بين الجبهة الشمالية والجنوبية، بهدف التوصل إلى حل يسفر عن عودة سكان الشمال إلى منازلهم، بجانب انسحاب مقاتلي الحزب من منطقة الحدود مع شمال إسرائيل إلى شمال نهر الليطاني.
احتمالات الحرب الشاملة
ما تزال احتمالات اندلاع الحرب الشاملة في منطقة الشرق الأوسط قائمة، في ظل استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية في عدة مناطق، ومحاولات محور المقاومة التابع لإيران مواجهة إسرائيل، وفي الوقت نفسه تعزز إيران محورها، مع تعزيزات أمريكية لصالح إسرائيل من جانب آخر، وهو ما يشير إلى حالة من التحالفات العسكرية التي ظهرت مؤخرًا بين جبهتين متقابلتين تشير تطور الأحداث إلى احتمال اندلاع حرب بينها.
وقد ظهر ذلك جليًا في مساندة الولايات المتحدة لإسرائيل خلال الهجوم الإيراني على إسرائيل مؤخرًا، وهو ما دعا إسرائيل لأن تفكر في الرد على تلك الهجمات الصاروخية بالتهديد بضرب أهدافًا نووية في إيران، فضلًا عن احتمالية استهداف منشآت النفط ومواقع إستراتيجية أخرى.
وفيما يتعلق بتزايد التصعيد يمكننا القول إن التصعيد سوف يتواصل في المنطقة، ما قد يؤدي إلى حرب شاملة بناءً على عدة معطيات وهي:
– الانتصارات الإسرائيلية هي بمتابة فرصة لنتنياهو والدولة العبرية لتحقيق مزيد من المكاسب الإستراتيجية وفرصة لضمان بقاء نيتنياهو في السلطة طالما أن الحرب مستمرة.
– تعتقد إسرائيل بفرص واعدة لفرض شروطها على دول المنطقة لفرض واقع جديد على منطقة الشرق الأوسط.
– عدم قدرة الولايات المتحدة – رغم جهودها الدبلوماسية – على ضبط الوضع
– إسرائيل طورت أهدافها حيث لم يعد الأمر مقتصرا في لبنان على الوضع في شمال نهر الليطاني بل أصبح متعلقا بتفكيك قدرات حزب الله.
– الشعبية الكبيرة التي بات يحظى بها نتنياهو في الداخل وتناسق المواقف بين المؤسسة السياسية والعسكرية.
وفي ظل تلك المعطيات والتطورات، وكذلك الضربات الإسرائيلية على “محور المقاومة” الذي تقوده إيران، فإن كل ذلك يؤدي إلى إعادة ترتيب موازين القوى ورسم خريطة سياسية مختلفة لمنطقة الشرق الأوسط، وهو ما دعا إسرائيل لأن تحارب في عدة جبهات في آن واحد منذ عام تقريبًا شملت حزب الله في لبنان والفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، وجماعة الحوثيين في اليمن، وهي كلها قوى تدعمها إيران.
يضاف إلى ذلك أن إسرائيل لا تخفي نواياها بشأن تمديد مشروعها الاستيطاني، وخاصة في الضفة الغربية وأعلنت وبشكل صريح عن نيتها مضاعفة عدد المستوطنين إلى مليون مستوطن، رغم ما يلقاه ذلك من انتقادات عربية ودولية.
خاتمة:
بات يُنظر إلى التصعيد غير المنضبط في المنطقة على إنه مقدمة لحرب واسعة، سواءً كان ذلك اتجاهاً مقصوداً أو انجراراً وراء معطيات الميدان، وقد بدأت العديد من الدول تدعو رعاياها لمغادرة لبنان، من بينها دول أوروبية كألمانيا وكذلك دول الخليج، فبالرغم من انخراط واشنطن بمساعي التهدئة على الحدود اللبنانية الإسرائيلية، ومعارضتها الصريحة للحرب، إلا أنها لا تستبعد قيامها، وبدأت باتخاذ إجراءات استباقية بإرسال سفينة برمائية ووحدة من المارينز للبحر الأبيض المتوسط، بالإضافة إلى تحريك حاملة الطائرات “يو إس إس دوايت دي أيزنهاور” USS Dwight D. Eisenhower، والطرادات المرافقة لها من البحر الأحمر إلى شرق البحر الأبيض المتوسط قبل عودتها إلى الولايات المتحدة.
بشكل عام سوف يكون مدى التصعيد الذي تشهده الجبهة اللبنانية مرتبطًا بمجموعة من العوامل الرئيسية؛ ومنها حدود رد فعل حزب الله على الاستهدافات الأخيرة للأراضي اللبنانية، ونتائج المباحثات الإيرانية مع بعض الأطراف الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، إذ إن إسرائيل تحاول أن تضع حزب الله بين خيارين؛ فإما أن يتم فك الارتباط بين الجبهة الشمالية والحرب في قطاع غزة واتخاذ ضمانات لعودة المستوطنين إلى مناطق الشمال، وانسحاب مقاتلي الحزب إلى شمال نهر الليطاني، وإما أن يتم الذهاب نحو مواجهة شاملة، ويظل سيناريو التراجع التكتيكي من الحزب مطروحًا، بالقدر الذي يُطرح به سيناريو استمرار حالة التصعيد.
في ضوء استقراء كل الاعتبارات والسياقات السالف ذكرها، يبدو أن تطورات الجبهة اللبنانية، سوف تكون محكومة بأحد المسارات التالية خلال الأيام المقبلة:
المسار الأول التسوية السلمية: يتمثل هذا المسار في وقف التصعيد بين الطرفين، وهو ما يعتمد علي عامليين أساسيين هما نجاح مقترح الدول الغربية بما فيهم الولايات المتحدة لوقف إطلاق النار والتهدئة بين الطرفين، والعامل الثاني يتمثل في جهود دولية دبلوماسية للتسوية، تعمل من خلالها وسطاء فرنسيين وأمريكيين على الدفع نحو تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم “1701” المجمّد منذ انتهاء الحرب عام 2006م.
المسار الثاني الحرب الشاملة: يعد هذا السيناريو الأكثر تشاؤمًا وصعوبة بسبب الخسائر التي قد تنجم عنه لدى كلا الجانبين، لكنه سيظل مطروحًا بنسبة كبيرة خاصة مع الاعتدءات الإسرائيلية المتنامية التي وصلت إلى مقتل الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله، وهو ما يعني تصفية إسرائيل للجانب العسكري في حزب الله عن طريق إغتيال معظم القيادات العسكرية بالحزب.
المسار الثالث المواجهة البرية: ويعني هذا السيناريو أن الضربات الإسرائلية المتنامية على لبنان هي تمهيد للإجتياح البري في الأيام المقبلة، وهو ما يشير إلى إعلان الحرب بشكل رسمي وواضح على الاراضي اللبنانية، وإن إسرائيل تركز حاليا على تكبيد حزب الله خسائر فادحة تحديدا على مستوي الصف الأول له.
ــــــــــــــ
المراجع:
- رحاب زيادي، محددات حاكمة: هل يتحول لبنان من ساحة إسناد إلى ساحة حرب”؟، المركز المصري للفكر والدراسات الاسترتيجية، تاريخ النشر: 22 أغسطس 2024م، متاح https://ecss.com.eg/47536/ على الرابط التالي:
- محمد فوزي، “سهام الشمال.. هل يتحول لبنان إلي غزة ثانية” ، المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية، تارييخ النشر: 24 سبتمبر 2024م، متاح على الرابط التالي: https://ecss.com.eg/47536
- هل تنشب حرب لبنان الثالثة؟.. السيناريوهات المتوقعة بين حزب الله وإسرائيل”، موقع القاهرة الإخبارية، تاريخ النشر: 24 سبتمبر 2024م، متاح على الرابط التالي https://alqaheranews.net/news/97294
- إسرائيل وحزب الله: هل يمضيان باتجاه حرب شاملة أم يبقيان في دائرة الاستنزاف المتبادل؟ تاريخ النشر: 22 سبتمبر, موقع بي بي سي نيوز عربية، متاح علي https://www.bbc.com/arabic/articles/cnvdzz91q5mo الرابط التالي
- إسرائيل تقصف جنوب بيروت وحزب الله يطلق 400 صاروخ خلال يوم، تاريخ النشر: 25 سبتمبر 2024، موقع قناة الجزيرة، متاح على الرابط التالي: https://www.ajnet.me/news/2024/9/25/
- رابحة سيف علام، “إسرائيل وحزب الله علي شفا الحرب .. تلاحق الضربات وتراكم الردود”، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، تاريخ النشر: 23 سبتمبر 2024، متاح علي الرابط التالي: https://acpss.ahram.org.eg/News/21274.aspx
- “ما أهداف الهجوم الإيراني على إسرائيل وهل يوقف التصعيد؟”، تاريخ النشر: 2 أكتوبر 2024م، موقع سكاي نيوز العربية، متاح على الرابط التالي: https://www.skynewsarabia.com/middle-east/1745627