شهدت العاصمة القطرية الدوحة توقيع الولايات المتحدة الأمريكية وحركة طالبان في 29 فبراير 2020، إتفاق سلام لإنهاء حرب دارت بينهما لمدة 19 عاماً، بما يُشير إلى أن أفغانستان تبدو مقبلة على مرحلة جديدة سوف تعاد فيها صياغة الترتيبات السياسية والأمنية بناءً على المعطيات التي سوف تفرضها بنود ذلك الإتفاق، والتي سوف تؤثر بشكل عام على المسارات المحتملة التي يمكن أن تتجه إليها الأوضاع السياسية في أفغانستان خلال الفترة القادمة. وقد جاء الإتفاق استجابة لمطالب الحركة بأن تكون المفاوضات “مباشرة” مع الولايات المتحدة الأمريكية والتى استمرت زهاء 14 شهراً، حينما قبلت واشنطن بالمفاوضات المباشرة مع الحركة، تفعيلاً لاستراتيجية الانسحاب من أفغانستان.
مضمون الإتفاق
يتضمن الإتفاق الذي غابت عنه الحكومتين الأفغانية والإيرانية، تخفيض عدد الجنود الأمريكيين إلى 8660 جندياً سيقومون بعملية تدريب القوات الأفغانية خلال مئة وخمسة وثلاثين يوما، وسحب القوات الأمريكية، وقوات الناتو على مدار أربعة عشر شهراً، ورفع العقوبات عن الحركة بحلول أغسطس المقبل، وأن تسعي الولايات المتحدة لرفع اسم الحركة من على قائمة الأمم المتحدة للإرهاب، على أن تلتزم طالبان بوقف عملياتها القتالية، وقطع علاقاتها بتنظيم القاعدة ومواصلة قتال تنظيم “داعش”، وعدم السماح لأي تنظيمات إرهابية باستخدام الأراضي الأفغانية لتنفيذ عملياتها الإرهابية.
دوافع توقيع الإتفاق
أدرك أطراف الصراع بعد سنوات القتال عدم قدرتهم على حسمه بالقوة المسلحة، وأن من شأن استمرار القتال استنزاف قدراتهم من دون طائل، وترافق ذلك مع رؤية الرئيس الأمريكي بضرورة إنهاء التواجد العسكري بالخارج، وإنجاز الوعد الذي قطعه أمام ناخبيه بإعادة الجنود الأمريكيين إلى الوطن أكثر من أي شيء آخر. ومن ناحية أخرى تتبدى حاجة الرئيس الأمريكي لهذا الإتفاق وإعادة القوات الأمريكية من أفغانستان؛ لاستغلاله داخلياً وهو في مستهل الحملة الانتخابية لدورة رئاسية جديدة.
وفي المقابل، أدركت حركة طالبان حاجتها للوصول إلى تسوية سياسية للأزمة الأفغانية تؤدي إلى تعزيز خيار صعودها إلى السلطة وسدة الحكم مرة أخرى، من خلال الاعتراف بها شريكًا في الحكم.
فرص الإتفاق وتحدياته
تباينت الآراء بشأن مدى قدرة إتفاق السلام على تحقيق التسوية الشاملة للأزمة الأفغانية؛ إذ أبدى البعض تفاؤلاً بالإتفاق لأسباب عدة، منها أنه ينطلق من رؤية الولايات المتحدة التي تحظى بالقبول والدعم الدولي، فضلاً عن الوزن النسبي للحركة في مسارات الترتيبات الأمنية والسياسية في أفغانستان وتأكيد زعيمها على الالتزام ببنود الإتفاق. ومع ذلك تظل هناك تحديات جسام تعرقل إنفاذ الإتفاق، وهي علي النحو التالي:
ــ غياب الحكومة الأفغانية عن المفاوضات، بكل ما يستتبع ذلك من تأثيرات المعطيات الجديدة للإتفاق على التوازنات الداخلية في المشهد السياسي الأفغاني.
ــ الطريق الشاق للمفاوضات الأفغانية ـ الأفغانية المرتقبة في 10 مارس المقبل، وصولاً لإحراز تقدم على طريق السلام والإنسحاب الشامل للقوات الأجنبية، وفرص نجاح هذه المفاوضات؛ في ظل خلاف بين الرئيس الأفغاني أشرف غني الذي يسعي للتقدم فى العملية السياسية عبر التواصل مع طالبان، مع رئيس السلطة التنفيذية عبدالله عبدالله على السلطة بما يُلقي بالشكوك حول رغبته في توحيد الجبهة الداخلية الأفغانية وجمع الفرقاء على طاولة المفاوضات، وخصوصاً في ظل تهديد رئيس السلطة التنفيذية بتشكيل حكومة موازية، بعد أن أعلن فوزة بالانتخابات الرئاسية الماضية في سبتمبر 2019، واتهامه للرئيس الأفغاني بتزويرها.
ــ طبيعة الدور الذي ستلعبه موسكو جراء المفاوضات الأفغانية الأفغانية، حيث تُعتبر أفغانستان منطقة نفوذ روسي.
ــ انعدام الثقة بين واشنطن وطالبان عسكرياً على أرض الواقع، إذ إن وزارة الدفاع الأمريكية كانت تُعارض التفاوض مع طالبان، وقد أكد بعض المسؤولين في الوزارة على أن البنتاجون “لا يبدي ثقته في الحركة الأفغانية التي لا يجب أن تحظى بها”. وتوازى ذلك، مع رفض بعض القيادات في الحزبين الجمهوري والديمقراطي للمفاوضات.
ــ المواءمة الأمريكية بين الأداة العسكرية والأداة الدبلوماسية، والتى تمثلت في تهديدات وزير الدفاع الأمريكي – أثناء وجوده بأفغانستان في نفس توقيت توقيع الإتفاق- بإلغاء الإتفاق إن لم تلتزم الحركة به، أخذاً في الإعتبار عدم توافر ضمانات بوقف الهجمات ضد الجنود الأمريكيين في أفغانستان، خاصة أولئك الذين سيقومون بعملية تدريب القوات الأفغانية.
ــ السلاح المنتشر في أفغانستان وسيطرة العصبية والقبلية داخل النظام السياسي، فضلاً عن إنه لا يستبعد مواصلة ايران لدورها المزعزع للاستقرار والقيام بإعادة قسم من ميليشيا “فاطميون” التي تقاتل في سوريا إلى جانب نظام الأسد إلى أفغانستان من جديد، بعد تغير توازنات القوى في سوريا لصالح حليفها. وهنا، فإن “طالبان” سترفض هذه المحاولات، خاصة في ظل الإتفاق مع الإدارة الأمريكية بالعمل على منع انتقال التنظيمات الإرهابية إلى أفغانستان من جديد، أو التحالف معها على غرار ما كان قائمًا مع تنظيم “القاعدة”، وهو التحالف الذي تسبب في تعرض أفغانستان إلى الغزو الأمريكي وسقوط نظام “طالبان” بعد وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001.
ــ الموقف الايراني الرافض للإتفاق: إذ رفضت إيران المفاوضات، وقد صرح أمين عام مجلس الأمن القومي “علي شمخاني” في ديسمبر 2019، بمعارضة إيران لأي إتفاق في ظل غياب الشعب الافغاني. ولذا فسوف تحاول إيران التحرك من أجل احتواء أية تداعيات محتملة قد يفرضها هذا الإتفاق على مصالحها ورؤيتها للترتيبات السياسية والأمنية التي يجري العمل على صياغتها في أفغانستان خلال المرحلة المقبلة؛ لأن الإتفاق في حال نجاحه فهو يُعني عملياً بتضييق القيود على النظام الإيراني ودوره الإقليمي المزعزع للاستقرار في المنطقة ودول الجوار، على أساس أن أفغانستان ساحة للحرب بالوكالة لإيران، في إطار محاولاتها الاستناد إلى نفوذها الإقليمي في التعامل مع السياسة التي تتبناها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تجاهها.
مستقبل الإتفاق
يتراوح مستقبل الإتفاق بين الالتزام به والنجاح في تحقيق التسوية السلمية، وبين فشل الإتفاق والعودة للصراع المسلح بين حركة طالبان والولايات المتحدة. والمسار الأول هو الأرجح لاعتبارين مهمين وهما:
ــ التزام الحركة بتعهداتها في الإتفاق، وعندئذ ستُصبح الحركة جزءا رئيسًا في المستقبل السياسي لأفغانستان، وعندئذ ستسعى الحكومة لمحاولة فتح قنوات تواصل معها، للوصول إلى تفاهمات حول التطورات السياسية التي تجري على الساحة الأفغانية.
ــ خرق الحركة لتعهداتها في الإتفاق جراء تصدع الجبهة الداخلية لحركة طالبان؛ فقد تشهد الحركة تزايد وتيرة الانقسامات والانشقاقات بداخلها، وخروج أعداد كبيرة من أعضائها، وقد أشارت صحيفة “تايمز” البريطانية، في 27 أغسطس 2019، إلى أن ثمة بوادر حقيقية لحدوث انشقاقات بارزة داخل الحركة مع استمرار مفاوضاتها مع واشنطن، التي يعتبرها بعض الكوادر، وفقًا للصحيفة، بمثابة “تنازل عن المبادئ”. بل إن هذه الخلافات قد تؤدي إلى اندلاع مواجهات دموية داخل الحركة، خاصة بعد أن حاولت إحدى المجموعات التابعة لها اغتيال قائدها مولوي هيبة الله اخوندزاده.
في المجمل، فإن تعقيدات المشهد الداخلي الأفغاني قد تكون هي العقبة الرئيسة في سبيل تنفيذ إتفاق السلام، ويتوقف نجاح الإتفاق على إدارة المشهد السياسي الداخلي، والذي ستكون روسيا حاضرة به بشدة على أساس أن أفغانستان منطقة نفوذ تقليدي لها، فضلاً عن ضرورة توافق وجهات النظر بينها وبين الولايات المتحدة في ضرورة تنحية التدخلات الإيرانية جانباً والتي ستسعي لعرقلة تفعيل ذلك الإتفاق لأنه يجعلها لا تمتلك خيارات متعددة على المستويين الإقليمي والدولي، في ظل إصرارها على تهديد الاستقرار السياسي والأمني داخل أفغانستان.