على خلفية التهديد المتزايد من جانب إيران والميليشيات الشيعية الحليفة لها في العراق، أعلن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، مؤخرًا، أنه قرر “مؤقتًا” نقل الدبلوماسيين الأمريكيين من القنصلية الأمريكية في البصرة إلى سفارة واشنطن في بغداد، وأصدر بيانا ألقي من خلاله بالمسؤولية على “فيلق القدس” بقيادة قاسم سليماني في إطلاق النار نحو مبنى القنصلية، والذي حسب ادعاء الإدارة الأمريكية تم تنفيذه على يد عناصر من الميلشيات الشيعية.
بحسب بومبيو، ترى الولايات المتحدة أن إيران هي المسؤولة، وسترد بأسرع وقت وبقوة على أي ضرر في الأرواح وفي الممتلكات قد يصيب الأمريكيين، حتى وإن تم تنفيذ الهجوم على يد ميليشيات محلية. مع العلم أن البيان تم نشره بعد إطلاق عدة صواريخ مرتين خلال الأسابيع الماضية في المنطقة التي تقع فيها القنصلية، من دون وقوع إصابات.
توتر متزايد
من المهم التأكيد على أنه خلال الأشهر الماضية تزايد التوتر في منطقة البصرة (التي تقع جنوب العراق، وأغلب سكانها شيعة) وظهر الأمر على شكل مظاهرات، رافقها خرق عنيف للنظام، ضد عجز الحكومة العراقية عن تقديم استجابة لأزمة المواطنين، وكل ذلك ضد إيران، بما في ذلك حرق للممثلية الدبلوماسية الإيرانية في المدينة.
“
وقد تجلى التوتر أيضًا على المستوى السياسي، حين اتُهم رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي بالمسؤولية المباشرة بشأن الوضع، عناصر موالية لإيران اتهمت أمريكا بأنها هي مَن ألهبت المظاهرات ضد إيران.
“
وفي تلك الحالة يبدو أنه من غير الواضح ما إذا كان إخلاء القنصلية الأمريكية في البصرة جاء على خلفية معلومات حقيقية لدى الولايات المتحدة تربط إيران بإطلاق النار، وهل فعلًا كان إطلاق النار موجهًا نحو القنصلية الأمريكية؟ علاوة على ذلك، وحسب تقارير صحفية، بحثت وزارة الخارجية الأمريكية في العام الماضي إغلاق القنصلية في البصرة في أعقاب تقليصات في الميزانية.
الانطباع السائد هو أن إعلان وزارة الخارجية نُشر بعد أن سارع البيت الأبيض باتهام الميليشيات الشيعية التي تدعمها إيران بتنفيذ الهجمات، ورافقت إدارة حملة تبرز سلوكيات إيران الإشكالية في المنطقة، وفي إطار ذلك تم تشديد لغة الخطاب لمسؤولين أمريكيين رفيعي المستوى، وعلى رأسهم مستشار الأمن القومي جون بولتون، ضد إيران، أساسها التهديد بأن “إيران ستدفع ثمنًا باهظًا في حال مسّت المصالح الأمريكية”.
في الواقع، تتطرق الإدارة الأمريكية في بياناتها لنشاطات إيران في المنطقة، لكن يبدو أنها تؤكد بشكل خاص على إمكانية اندلاع احتكاك في العراق. هذا، وقبل كل شيء، لأنها ترى في هذه الساحة الخطر الأكبر على خلفية وجود أفراد عسكريين وعناصر مدنية أمريكية تعمل في أنحاء الدولة.
خبرات سابقة
في ضوء التجربة السابقة التي تضرر في إطارها جنود أمريكيون كُثر من نشاطات الميليشيات الشيعية بتوجيه إيراني. ولأن الإعلام الأمريكي نقل أن الاستخبارات الأمريكية لديها معلومات تؤكد على أن الميليشيات الشيعية وعناصر أخرى تدعمها إيران تنوي تنفيذ عمليات ضد أهداف ومصالح أمريكية؛ فمن المرجح أن تأخذ الإدارة الأمريكية في حيز الحسبان أنه في الوقت الذي تحظى فيه الحملة الشاملة ضد إيران بزخم – وخصوصًا بعد بدء مفعول العقوبات في مجال الطاقة والبنوك بداية نوفمبر – سيزيد من حافز إيران بتأكيد قوة ردعها.
في الوقت نفسه، تقود الولايات المتحدة حاليًا وإيران حملات إقناع أمام كل الجهات السياسية في العراق لضمان أن الادارة التي ستتشكل في أعقاب الانتخابات البرلمانية (مايو 2018) ستعمل حسب مصالحهما. مع الإشارة إلى أن حليف الولايات المتحدة، رئيس الحكومة السابق العبادي، لم يستمر في منصبه، هذا بعد أن فقد مقتضى الصدر، الذي فاز حزبه في الانتخابات بعدد الممثلين الأكبر، والزعيم الشيعي الديني آية الله علي السيستاني، الثقة به، وطالبا بأن تتشكل الحكومة من التكنوقراط.
“
على خلفية ذلك، فإن مهمة تشكيل الحكومة ألقيت على عاتق من شغل في السابق منصب نائب الرئيس ووزير المالية والنفط، عادل عبد المهدي، (شيعي، يعتبر اليوم مستقلًا. في السابق كان عضوًا في الحزب يمثل المجلس الإسلامي الأعلى للعراق المقرب من إيران).
“
لقد اعتمدت سياسات الإدارة الأمريكية في العراق خلال السنوات الماضية بالأساس على العلاقات الشخصية لرئيس الحكومة العبادي، وعلى التعاون الذي تمت صياغته مع الجيش العراقي على خلفية الحرب المشتركة لإبادة “داعش”. وفي هذه الحرب، تغاضت الولايات المتحدة عن خلافها مع إيران، التي شاركت كذلك بالحرب ضد “داعش” من خلال الميليشيات الشيعية التي ساعدت بذلك. تعتبر هذه الميليشيات اليوم عامل التأثير المركزي لإيران في الساحة السياسية في العراق، بعد أن أصبح تحالف الفتح برئاسة عامري (التابع لإيران) ثاني أكبر حزب في البرلمان.
ترى إيران في تأثيرها في العراق – الذي يقاسمها حدودًا طويلة – عنصرًا مركزيًا في منظور الأمن القومي الخاص بها، هذا أيضًا كجزء من جهودها لمركزة تأثير إقليمي شامل وضمان خط توريد بري يصل إيران عبر العراق، لسوريا ولبنان، ومن ثم إلى إسرائيل إذا لزم الأمر.
إن هزيمة داعش وفشل الاستفتاء الشعبي الكردي شمالي العراق خدم إيران. مع ذلك، فإن تموضع الحكم المركزي مجددًا في بغداد وضع أمامها تحديًا كبيرًا، بعد أن اتبع رئيس الحكومة السابق العبادي خطًا مستقلًا أمام طهران وأعرب عن تحفظه على تدخلها الصارخ، بقيادة فيلق القدس، في شؤون بلاده. رغم أن مسؤولين إيرانيين وعراقيين أكدوا على أن العلاقات بين البلدين جيدة، إلا أن طهران كانت قلقة من تآكل محتمل لمكانتها.
في الوقت الحالي، في ضوء المواجهة المتصاعدة مع الولايات المتحدة وفي أعقاب الأزمة الاقتصادية المتزايدة نتيجة لذلك في العراق، يرى النظام الإيراني أن هناك ضرورة متزايدة للحفاظ على تأثير إيران في العراق، كي يتم استغلالها في سيناريو اندلاع مواجهة مستقبلية أمام الولايات المتحدة. وتسعى القيادة الإيرانية لنقل رسالة ردع للولايات المتحدة بتداعيات مواجهة عسكرية.
خاتمة
من ناحية إسرائيل، تطرق رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير الجيش أفيجدور ليبرمان لاحتمالية أن تعمل إسرائيل أيضًا ضد الإيرانيين في العراق، ذلك بعد أن حظيت هذه الساحة في السنوات الماضية بقليل من الاهتمام من طرف صناع القرارات في إسرائيل.
في هذا السياق، وخاصة في ظل إمكانية أن تتحول هذه الساحة في الأشهر المقبلة لساحة مواجهة بين الولايات المتحدة وإيران، من المهم ضمان التنسيق المسبق بين الولايات المتحدة وإسرائيل. هذا في أعقاب القلق الأمريكي من تدهور الوضع أمام إيران وحساسية ذلك في الإدارة لضمان الاستقرار في العراق كعامل مركزي في القدرة على التأثير على التطورات سواء في إطار الحرب أمام “داعش”، التي حتى لو تُوجت على أنها ناجحة، إلا أنها لم تنتهِ بعد.
ــــــــــ
ورقة سياسات نشرها الداد شبيط وراز تسيمات، يوم 9 أكتوبر 2018 بمعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي.
نقلتها من العبرية للعربية: دينا زيدان.