يرتبط دور الدولة الفاعل برؤيتها لذاتها ومحيطها الإقليمي والدولي، وتتميز إيران بفعالية الدور والتأثير المتنامي على مجريات الشرق الأوسط بالكامل، ولذا تسعي هذه الطروحات إلى تناول أبرز مرتكزات السياسة الخارجية الإيرانية التي تحكم تفاعلاتها على المستوى الإقليمي والدولي، وانعكاسات ذلك على مستقبل الدور الإيراني في المنطقة.
أولا: الثورة الإيرانية كمحدد لتحولات السياسة الخارجية
شهدت السنوات التي أعقبت قيام الثورة الإسلامية 1979 تحولاً في السياسة الإيرانية نحو تفعيل الهوية الشرق أوسطية أكثر من ذي قبل، ولا يعود ذلك إلى الدوافع المرتبطة بالتجارة البينية بالأساس، وإنما يتصل الأمر بتنامي إحساسها المشترك مع الدول المحيطة بالقضية الفلسطينية وضرورة التقارب مع الدول العربية، كما كان واضحاً للدول الغربية أن النظام الإيراني بعد الثورة سيميل أكثر للهوية الشرق أوسطية في ضوء إعادة بناء الانتماء والهوية في المجتمع الإسلامي.[1]
ثانيا: ترسيخ الانتماء للمنظومة الأسيوية
كما تسعي إيران إلى أن تُعرف على أنها دولة أسيوية بالنظر إلى أن التنمية أصبحت بمثابة الكلمة المفتاحية للتعريف بالقارة الأسيوية وأهمية الدول المنتمية لهذه المنطقة في دعم عملية التنمية والعلاقات الاقتصادية المحورية خاصة في ضوء الموقف الحالي بين إيران وبين دول الغرب في سياق تطورات الملف النووي الإيراني والدور الإيراني الفاعل اتصالاً بالتطورات الاقليمية الاخيرة التي تشهدها المنطقة
ثالثا: التحول في العلاقات مع إسرائيل
شهدت العلاقات الإيرانية ـ الإسرائيلية في أعقاب الثورة الإسلامية تحولاً عما كان عليه الحال في اتجاه التأييد للقضية الفلسطينية ودعم الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ويبدو ذلك على درجة واضحة من التباين مع الموقف السائد إبان حكم شاه إيران الذي اتسم بدرجة لا يستهان بها من البرجماتية، في ظل اعتقاد حكومة الشاه أن الصراع العربي ـ الإسرائيلي غير قابل للحل المباشر واتباع إسرائيل وإيران استراتيجية محددة آنذاك في إطار تحقيق المصالح البريطانية ثم المخططات الأمريكية بعد تزايد النفوذ الأمريكي وتغلغله في المنطقة ومن ثم كان التوجه السائد هو التوافق العام مع الحلفاء الغربيين وإقامة حلف دفاعي في مواجهة العرب.
رابعا: المصلحة القومية الإيرانية والأيديولوجية
ترتكز السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية الإيرانية على المصلحة القومية والأيديولوجية المستندة إلى اعتبارات الدين، ويمكن في هذا السياق تصور تعدد هائل في رؤى القوى السياسية الإيرانية يكاد يتساوى مع ألوان الطيف لما يجب أن تكون عليه التوجهات الأساسية للسياسة الخارجية والداخلية في آن واحد، وذلك بالتأرجح ما بين محوري المصلحة والأيديولوجية الإسلامية، وإذا كان كل من هذين الخيارين بعيداً عن الواقع إذا تم التطبيق على نحو مطلق لأي منهما على انفراد؛ فإن هناك تعددية لا حصر لها تخلط بنسب متفاوتة بين ما هو مصلحة وما هو اعتبارات إسلامية.
خامسا: رسم السياسة الإيرانية في ضوء خريطة توازنات القوى الإقليمية
بالنظر إلى السياق الدولي والإقليمي الذي تتحرك فيه إيران، نجد أن سياستها محكومة بدرجة لا يستهان بها من خلال خريطة توازنات القوى الإقليمية التي تشهد حالة اشتباك بين مشروعات ثلاثة وهي المشروع الصهيوني، والمشروع الإيراني الإسلامي والمشروع التركي (ويمكن أن يضاف إليها بالطبع المصالح الأمريكية في المنطقة وموقف دول الخليج من المنظور الأمني والسياسي والاقتصادي).
وعلى الرغم من أن المشروع التركي يتسم بتفاعلات شديدة الخصوصية بين ما يُنسب لكمال أتاتورك و”العثمانية الجديدة” من دون استقرار على صيغة واضحة ومباشرة، لكن ينعكس ذلك بالطبع في حسابات صانع القرار الإيراني، حيث تؤثر التفاعلات بين هذه المشروعات الثلاثة على الأمن القومي الإيراني والأمن القومي العربي والشرق الأوسط بدرجة لا تخفى على عين المتابع لمجريات الأحداث في الوقت الحالي.[2]
سادسا: المزج بين الإسلام والقومية والحداثة
يري الكثير من المحللين أن النموذج المعرفي للدولة الإيرانية يقوم على المزج بنسب متفاوتة بين الإسلام والقومية والحداثة، وبين مفهوم الأمة ومفاهيم المساواة والحرية، وكذلك الأسس النظرية النابعة من “نظام ولاية الفقيه” والتركيز على التنظيمات الدينية إلى درجة رؤية البعض لدور المساجد في إيران على أنها مقاربة للأنشطة الحزبية والعمل كفصيل من مؤسسات المجتمع المدني.[3]
سابعا: الطائفية
تؤثر الهوية الدينية على مواقف إيران على المستوى الإقليمي والدولي لكنها لا تُمليها، إذ تستغل إيران هذا المحدد المهم في إطار تفاعلها مع الجماعات الخارجة عن إطار الدولة، بينما يتسم سلوكها الدولي العام بدرجة من البرجماتية المصبوغة بالدين إذا جاز التعبير.
من ثم فإن إسباغ الطائفية بشكل أساسي وحاكم وحيد لحركة السياسة الخارجية الإيرانية يحجب أكثر مما يكشف طبيعة سلوكها، فالعنصر الطائفي موجود لكنه ليس الوحيد (وذلك في ضوء تنامي العامل الطائفي بشكل عام منذ اندلاع ثورات الربيع العربي وسقوط نظام الرئيس صدام حسين).[4]
بالتالى يمكن القول إن إيران كدولة فاعلة في محيطها الإقليمي والدولي تتحرك في سياق يبلور مرتكزاتها الفكرية والأيديولوجية باستمرار مع الاحتفاظ بثوابت لا غنى عنها، ومن ثم يوجد مزيج واضح بين البرجماتية والعقيدة يحكمان سلوكها الحاضر وفي المستقبل أيضا بالنظر إلى أن العامل الوحيد المطلق المحرك للدولة لا تعرفه العلاقات السياسية الدولية.
خاتمة
يمكن القول بناء على ما سبق أن الدور الإيراني مرشح للصعود باستمرار، وليس من المتوقع من الدول عامة أن تُغير من الأيديولوجية الحاكمة لها في المستقبل القريب في ظل غياب المحفز القوي لذلك، الثورة على سبيل المثال والتي تحدث بطبيعة الحال خلال فترات زمنية متباعدة، ولكن يمكن القول إن المواقف الدولية يحدث التغيير فيها على نحو متوقع بالنظر إلى اختلاف توازنات القوى والأحداث السياسية الجارية التي تطرأ بتواتر ملحوظ على الساحة الإقليمية والدولية من دون المساس بالثوابت الفكرية العامة التي قامت عليها السياسة الخارجية الإيرانية منذ اندلاع الثورة الإسلامية لعام 1979.
ـــــــــــــــ
[1] د. محسن أمين زادة، إيران تصبح أكثر ارتباطا بأسيا عن ذي قبل، في: د. نادية محمود مصطفي (محرر)، إيران والعرب المصالح القومية وتدخلات الخارج رؤى مصرية وإيرانية، جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2009، ص ـ ص 124 – 125.
[2] د. محمد السعيد إدريس، إيران والأمن القومي العربي، المركز العربي للأبحاث والدراسات السياسية، 2011.
[3] حسين عبد الراضي، محمود قاسم، المرتكرات الفكرية الإيرانية نحو بناء دولة الفقيه، المرصد المصري، 2019.
[4] أفشان استوار، المعضلات الطائفية في السياسة الخارجية الإيرانية حين تتصادم سياسات الهوية مع الاستراتيجية، كارنيجي، 2016.