بعد ثلاثة أيام فقط من القمة العربية ــ الأمريكية في جدة، استضافت طهران يوم الثلاثاء 19 يوليو 2022 القمة الإيرانية ــ الروسية ــ التركية ضمن آلية أستانا الثلاثية، ما أفضى إلى نتيجة تحليلية مفادها أن قمة طهران تحاول مواجهة نتائج قمة جدة، على العكس مما أعلنته إيران.
في صباح يوم الثلاثاء وقبل انعقاد القمة أعلن المتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني، “أن قمة طهران الثلاثية ليست في مواجهة مع قمة جدة أو أية مبادرات من دول المنطقة للتعاون الإقليمي”؛ إلا أن بعض الصحف الإيرانية نشرت صباح يوم الأربعاء 20 يوليو 2022 تحليلات وافتتاحيات تشير إلى أن القمة في منافسة مباشرة مع قمة جدة.
فهل كان مرمى تلك التحليلات أن قمة طهران بمثابة رد اعتبار تجاه طموحات الرئيس الأمريكي جو بايدن في المنطقة أم كانت تستهدف أن تتمخض عنها نتائج مختلفة؟!
في الواقع لا يخفى على أحد العزلة والتهميش اللذين تعرضت لهما كل من تركيا وروسيا وإيران في ظل تداعيات جيوسياسية قاهرة وهزات اقتصادية كبيرة، ومنه يبدو أن اجتماع الدول الثلاث لا يقتصر فحسب على الرد المباشر على قمة الرياض وطموحات بايدن، وإنما يتضمن كذلك تقويم لحالة الاحتقان السياسي والمصالح المتضررة لتلك الدول.
ولعل التحليل الافتتاحي لصحيفة “آرمان ملي” الإصلاحية لخبير شؤون السياسات الخارجية “على بيجدلي” عضو الهيئة العلمية والأستاذ بجامعة شهيد بهشتي، بعنوان “نشست تهران در رقابت با نشست رياض” أو “قمة طهران في منافسة مع قمة الرياض”، يحاول الكشف عن الأهداف الحقيقية من تلك القمة.
جاء في الافتتاحية
عقب زيارة بايدن، عزمت إيران على دعوة روسيا وتركيا إلى قمة مهمة في طهران، حيث ركزت على القضية السورية، ففي وقت سابق أعلنت تركيا مرارًا عن نيتها في شغل المزيد من المواقع الرئيسة في سوريا، الأمر الذي عارضته إيران وروسيا.
هذا وتأتي الرغبة التركية من أجل تأمين المناطق التي تنطلق من الحدود التركية إلى منطقتي منبج وتل رفعت في ريف محافظة حلب شمالي سوريا.
وهناك تسيطر قوات سوريا الديمقراطية ــ المرتكزة على المقاتلين الأكراد ــ على تلك المناطق؛ لهذا تخشى أنقرة وجود أكراد سوريا عند حدودها، ما قد يعزز موقع حزب العمال الكردستاني والمصنف من الجانب التركي “منظمة إرهابية”؛ لذلك لوح أردوغان منذ شهرين عن نيته تنفيذ عمليات عسكرية إلى عمق 30 كيلو مترا في داخل الحدود السورية.
كان من المتوقع حضور تركيا مع الدول العربية في قمة جدة، ولكن بسبب الخلافات العميقة بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية من ناحية وبينها وبين السعودية من ناحية أخرى، لم تتم دعوتها، أما بوتين فيرغب في تكوين تحالف إقليمي لإيجاد مزيد من الشرعية لنفسه.
في غضون ذلك نوه المرشد الإيراني علي خامنئي إلى أن اندلاع حرب في منطقة حلب وشمالي سوريا سيضر بتركيا وسوريا معًا، علاوة على أن تلك التطورات والوجود التركي طويل الأمد هناك، والحزام الأمني الذي تريد تركيا إنشاءه بعرض 30 كيلومترا؛ سيزعزع حكم بشار الأسد.
أخذا في الاعتبار أنه منذ وقت ليس ببعيد سافر الرئيس السوري بشار الأسد بنفسه إلى محافظة حلب؛ لاستعراض قوته بالتزامن مع معارضة كل من روسيا وإيران للوجود التركي في تلك المنطقة.
بناء على ذلك هدفت قمة طهران الثلاثية إلى تركيز محور الجلسة على القضية السورية على الرغم من الخلافات بين إيران وبين تركيا وبين روسيا، مع هذا طُرحت مواضيع أخرى على هامش تلك القمة، ومن بينها: العزلة السياسية لتركيا ووضعها الاقتصادي المضطرب ومشارف أزمة نقص الغذاء فيها وتحديدًا القمح.
ازدواجية الأهداف والمصالح
تمارس تركيا لعبة متعددة الأطراف، لكنها مع ذلك، على خلاف مع طهران حول أزمة المياه وإنشاء العديد من السدود على المجرى الرئيس لنهري دجلة والفرات وحتى آراس. وأيضًا على خلاف مع روسيا بسبب صفقة شراء كييف للأسلحة والمعدات العسكرية.
ثم إن توقيف سفينة محملة بالقمح في مضيق البوسفور، نجم عنه خلاف تركي مع الكرملين، وبما أن تركيا تعدُّ أحد أكبر مستهلكي القمح الأوكراني، يريد الرئيس رجب طيب أردوغان التوصل إلى اتفاق مع روسيا؛ للإفراج عن القمح الأوكراني الموقوف في البحر الأسود، هذا من ناحية.
من ناحية أخرى يحاول الرئيس فلاديمير بوتين إبقاء أردوغان في معسكره باعتباره عضوا مهما في حلف الناتو، في حين يحاول الرئيس أردوغان توطيد موقعه ومكانته لدى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي وأمريكا بتطويق الخناق على روسيا بل وارتهانها.
في إبريل الماضي، فاجأت القوات الأوكرانية روسيا، بإغراق الطراد المسلح “موسكفا” الذي كان يعتبر السفينة الرائدة في أسطول موسكو في البحر الأسود، وقد نجح الأوكرانيون في ضرب السفينة بصواريخ “نبتون” أوكرانية الصنع بتنسيق الضربة بواسطة طائرتين مسيرتين تركيتين من نوع “بيرقدار تي بي 2”.
على صعيد آخر، عندما عُقد لقاء بين بايدن وأردوغان على هامش قمة مجموعة العشرين في روما، لم يستطع الرئيس التركي إرضاء بايدن، بل لم يحظ باهتمام كبير منه؛ ما أدى إلى إعراضه عن الغرب، في محاولة إثارة قلق أمريكا وحلف شمال الأطلسي مقابل إبداء ميل أكثر نحو روسيا.
أي إن ذلك كان أسلوبا استفزازيا صريح من الجانب التركي، لإخراجه من العزلة السياسية التي مارسها بايدن تجاهه، على نحو آخر لدى إيران خلافات مع روسيا، وتحاول حلحلة تلك الخلافات من خلال تعزيز العلاقات على المستوى العسكري والتجاري.
ووفقا للتقارير الأمريكية وتصريحات مستشار الأمن القومي الأمريكي “جيك ساليفان” تعتزم روسيا شراء 300 طائرة مسيرة إيرانية قادرة على إطلاق الصواريخ؛ لتدعم جهودها في أوكرانيا وتعوض المعدات التي خسرتها في الحرب.
كشفت صحيفة نيويورك تايمز أن روسيا استنفدت معظم أسلحتها الموجهة بدقة وكذلك طائراتها المسيرة التي استخدمتها في القصف المدفعي طويل المدى خلال الأشهر الماضية في غزوها لأوكرانيا.
على الرغم من ذلك، نفى وزير الخارجية الإيرانية حسين أمير عبد اللهيان مرات عدة تلك التصريحات واعتبرها مسيئة للصحافة الأمريكية، ومع هذا يبدو أن روسيا ترغب في تأخير العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة التي تجري مباحثاتها في فيينا منذ إبريل 2021م، وأن تُظهر للغرب أنها لا تزال تؤثر على مفاوضات الاتفاق النووي.
زيادة على هذا ترغب روسيا في الاستفادة من التجربة الإيرانية في الالتفاف على العقوبات وتطبيقه على العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها. وكخطوة تجريبية، جاءت الصفعة الروسية على وجه أوروبا حينما أعلنت شركة “غازبروم” الروسية المملوكة للدولة إعادة تصدير الغاز غبر خط أنابيب “نورد ستريم” ــ بعد توقفه بسبب أعمال الصيانة ــ إلى أوروبا يوم الخميس 21 يوليو 2022 بطاقة منخفضة لظروف قاهرة.
في الوقت نفسه أعلنت إيران توقيع مذكرة تفاهم مع “غازبروم” لتنفيذ مشروعات تقدر بنحو 40 مليار دولار، وهو ما يعد الصفقة الأكبر في تاريخ صناعة النفط الإيرانية.
خاتمة
مجمل القوة إن تلك القمة الثلاثية لم تكن تنطوي على مجرد اجتماع مشترك بين الدول الثلاث يناقش القضية السورية أو تعزيز العلاقات التجارية الثنائية فحسب، وإنما انطوت على إعادة هيكلة وتصحيح للعلاقات بين إيران وبين روسيا من جهة وبين إيران وبين تركيا من جهة ثانية، وبين روسيا وبين تركيا من جهة ثالثة.
ولعل ذلك يعكس أن القمة كانت منافسًا للرياض من ناحية التعاون الإقليمي بين روسيا وبين تركيا وبين إيران وكسر للعزل الأمريكي المفروض على الدول الثلاث.
وكذلك تمخضت القمة عن فشل تركيا في كسب التأييد الروسي والإيراني لتنفيذ عملياتها العسكرية في سوريا وتأمين حدودها من تهديدات حزب العمال الكردستاني.
من جنب آخر أفرزت القمة نجاحا للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى حد ما في تحقيق أهدافه من تلك الزيارة ودفع أوروبا نحو الركود والاختناق من نقص إمدادات الغاز بوتيرة أسرع.
أما إيران فكان لها الحظ الأوفر من المكاسب على الصعيد الجيوسياسي والاقتصادي، وهو ما ستظهره الأيام المقبلة.