يتخذ مجلس صيانة الدستور موقعه الرئيس في هندسة كل الانتخابات الإيرانية وإخراجها عموما، وفي الانتخابات الرئاسية على وجه التحديد، باعتباره سلطة حاكمة ونافذة ومسيطرة، لاسيما انتخابات الرئاسة المقبلة التي ستحدد سياسات النظام في السنوات الأربع المقبلات، وهو من خلال إطلالته بالغة الأهمية على تلك العملية السياسية المعقدة جدير بالبحث في دوره وإلقاء الضوء على رئيسه وطبيعة علاقته بسيرورة الانتخابات وصيرورتها.
موقع مجلس صيانة الدستور في الدستور
ذكر الدستور الإيراني لعام 1979 مع تعديلاته لعام 1989 مجلس صيانة الدستور 13 مرة أغلبها في خضم المواد المتعلقة بتسيير عمل مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان) على اعتبار أنه (أي صيانة الدستور) مجلس فوق برلماني من شأنه مطابقة ما يصادق عليه مجلس الشورى الإسلامي مع الأحكام الإسلامية والدستور.
بالتالي فإن مجلس صيانة الدستور (بالفارسية: شورای نگهبان) يراقب ما يصدره البرلمان من قرارات أو قوانين، ويتعين عليه دراسة وتقرير مدى مطابقتها مع الموازين الإسلامية ومواد الدستور.
بعد تلك الدراسة إذا وجد مجلس صيانة الدستور قرار البرلمان مغايراً للدستور ولأحكام الشريعة، فإنه يعيده إلى مجلس الشورى الإسلامي لإعادة النظر فيه؛ وإلا يعتبر نافذ المفعول في غضون عشرة أيام، وفقا للمادة الرابعة والتسعين من الدستور، وفي كثير من الأحيان يرفع المجلس تقريرا بذلك إلى المرشد الأعلى للبلاد الذي غالبا ما يستمع إلى توصياته ويطبقها.
اقرأ أيضا:
وقد خصص الدستور الإيراني 9 مواد كاملة (من المادة 91 إلى المادة 99) لتوضيح طبيعة عمل المجلس وتكوينه وصلاحياته الدستورية.
ووفقا للمادة الحادية والتسعين من الدستور فإن المجلس يتكون من 12 عضوا هم ستة أعضاء من الفقهاء يختارهم القائد، إلى جانب ستة أعضاء من الخبراء القانونيين يشترط أن يكونوا “مسلمين”، ويرشحهم رئيس السلطة القضائية ويصادق عليهم مجلس الشورى الإسلامي، وبالتالي فإن الأعضاء الاثني عشر يتم اختيارهم من خلال المرشد الأعلى للبلاد بصورة مباشرة وغير مباشرة، ويكون راضيا عنهم، وإلا ما رشحهم رئيس السلطة القضائية الذي يعينه المرشد أصلا.
لكن أهم ـ أو ربما أخطر ـ مادة تنظم عمل مجلس صيانة الدستور هي المادة التاسعة والتسعين التي تخوله تولي الإشراف على كل الاستحقاقات الانتخابية بما فيها انتخابات مجلس خبراء القيادة وانتخابات رئاسة الجمهورية وانتخابات البرلمان، فضلا عن الاستفتاء العام الذي يدعو له المرشد إذا اقتضت الضرورة ذلك.
عليه يعد مجلس صيانة الدستور هو المصفاة السياسية الدستورية التي يتخذها النظام الإيراني ــ أو الولي الفقيه الحاكم ــ لتمرير المرشحين وإكسابهم صفة الأهلية أو نزع تلك الصفة عنهم، وفي إطار تلك الصورة فإن كل المرشحين المحتملين لرئاسة الجمهورية سيكونون من الفئة التي يفضلها المرشد للمرحلة المقبلة في سياق صنع السياسات العامة للبلاد، وتبقى فقط أمام الناخبين مجرد المفاضلة بين شخصيات اختارها المرشد سلفًا.
موقع مجلس صيانة الدستور في الانتخابات الرئاسية 2021
بناء على هذا الموقع الدستوري الحاكم لمجلس صيانة الدستور فإنه من المقرر أن يلعب دورا محوريا في تحديد اسم الرئيس المرتقب حتى لو تقدم للرئاسة شخصيات لها وزنها مثل محمود أحمدي نجاد الرئيس السابق للبلاد، أو حتى فائزة هاشمي رفسنجاني ابنة الرئيس الأسبق للبلاد هاشمي رفسنجاني تلك التي أعلنت عن ترشحها للسباق الرئاسي.
وبالرغم من أنه لا توجد مادة دستورية تقصي المرأة وتمنعها من الترشح لهذا المنصب التنفيذي الأرفع؛ إلا أن سوابق قرارات المجلس تشي بأن فائزة لن تجاز للعملية السياسية؛ لأنه ما من امرأة سمح لها بمجرد الترشح في السنوات الاثنتين والأربعين السابقة من عمر الجمهورية الإسلامية.
بعيدا عن ذلك فإن تسلسل الأحداث في الأشهر الأخيرة منذ انتخابات فبراير 2020 حين أفسح مجلس صيانة الدستور المجال حصرا للمرشحين ذوي الخلفية المحافظة والمتشددة والأكثر تشددا، وبالتالي ظهر مجلس الشورى بأغلبية محافظة كاسحة، تشير تلك الوقائع إلا أن المرشد الإيراني وجه تعليماته إلى مجلس صيانة الدستور بتمرير أسماء المرشحين المحافظين أو العسكريين إلى المنافسة.
وللمجلس سوابق كثيرة في هذا الصدد منها على سبيل المثال أنه لم يقر بأهلية ثاني أهم رجل في تاريخ الجمهورية الإسلامية، ورئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام هاشمي رفسنجاني نفسه لانتخابات العام 2013، تلك التي فاز فيها حسن روحاني، وعليه فإن رجلا بضخامة رفسنجاني لم يكن له أهلية للانتخابات ــ من وجهة نظر المجلس ــ فإن ابنته أو أي مرشح إصلاحي آخر لن يحوز تلك الأهلية.
موقع آية الله أحمد جنتي في هندسة الانتخابات الرئاسية الإيرانية 2021
يجمع آية الله أحمد جنتي البالغ من العمر نحو 94 عاما على نحو نادر في تاريخ الجمهورية الإسلامية بين عدد من المناصب بالغة الحساسية، ومنها رئاسته مجلس خبراء القيادة (2016 ــ حتى الآن) ورئاسته مجلس صيانة الدستور (1992 ــ حتى الآن) إلى جانب عضويته في أغلب المجالس والمنظمات والهيئات المهمة في النظام الإيراني ومنها عضويته في مجمع تشخيص مصلحة النظام والمجلس الأعلى للثورة الثقافية.
وبالرغم من أن مؤسس الجمهورية الإيرانية آية الله روح الله الموسوي الخميني كان قد عين جنتي عضوا في مجلس صيانة الدستور عام 1980؛ إلا أن أصابع السياسة لم تُشِرْ إليه يوما كونه ــ على غير العادة ــ من منافسي آية الله علي خامنئي فقهيا أو سياسيا، وظل جنتي من المدافعين المستميتين عن خامنئي وطالما نافح الرجل للذود عن الولي الفقيه، لدرجة أنه أصدر تصريحه الشهير في العام 2010 الذي قال فيه “إن معارضة المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي ترقى إلى مرتبة إنكار الله”.
ولقد بقي جنتي رغم طعونه في السن على رأس كل تلك المؤسسات وصاحب كل تلك العضويات، وهو الوحيد بعد رحيل الفريق قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الذي اغتيل في يناير 2020، الباقي في قلب السلطة من بين كل الساسة الذين تناوبوا على المشهد في إيران.
بناء على تلك الخلفية يعهد خامنئي المهام الصعبة إلى جنتي بكل ارتياح، وينتظر الأخير تعليمات وليه الفقيه لصد الأسماء غير المرغوب فيها من المرشد، ومنح الشخصيات العسكرية والمحافظة الأخرى صك النزاهة والكفاءة والأهلية والمقبولية للذهاب إلى قصر سعد أباد ــ أو الباستور ــ في استحقاق الثامن عشر من يوليو 2021.
خاتمة
لعل المرشد الأعلى لإيران آية الله علي خامنئي نظر إلى موقع بلاده في الإقليم، وتدبر حالتها السياسية الداخلية السائلة وحسم أمره، بأن قرر توحيد كل السلطات الثلاث في يد المحافظين، ويشي تعيينه “المحافظ” إبراهيم رئيسي على قمة السلطة القضائية، وهندسة البرلمان ليكون محافظا واختيار “المحافظ” محمد باقر قاليباف رئيسا له، ثم قبوله ترشح العسكريين (حسين دهقان ـ سعيد محمد) للانتخابات، يشي ذلك كله في صورته البانورامية بأنه يريد الوقوف أمام الولايات المتحدة الأمريكية، وأمام المجتمع الإيراني متمترسًا خلف سلطات ثلاث محافظة، بالرغم من أن كل خبرات التاريخ تعطي فكرة استباقية عن مصير من يلجأ إلى هذا الخيار المحفوف بالمخاطر.