لأن الصين هي إحدى الدول المترقبة دخول العقوبات الأمريكية على إيران حيز التنفيذ فمن المهم التطرق إلى المنظور الصيني إلى تلك العقوبات التي تمثل في مجملها فرصة ربما لا تتكرر لبكين التي دأبت على الاستفادة من الصراعات الدولية في السنوات العشرين الأخيرة.
في مسألة العقوبات الأمريكية على إيران تعد المصالح المشتركة هي العنوان الرئيس للعلاقات بين بكين وطهران، فلا تجمع بينهما أية رابطة أخرى أيديولوجية أو قومية أو لغوية أو دينية، فقط هي المصالح التي تتجدد باستمرار في ظل ظروف دولية متقلبة، تجعل كل منهما يجد ضالته في الآخر.
طابع براجماتي
وقد كان الطابع البراجماتي واضحا في تلك العلاقات منذ بدايتها عام 1978، حين زار هوا غوفينغ، رئيس الحزب الشيوعي الصيني، العاصمة الإيرانية، طهران، في شهر أغسطس في أثناء اشتعال الاحتجاجات ضد الشاه محمد رضا بهلوي، بهدف فتح مجال للتعاون الاقتصادي بين البلدين، ووُصفت هذه الزيارة بأنها المرة الأولى التي يزور فيها زعيم شيوعي صيني بلدا غير شيوعي، خاصة أن نظام الشاه وقتها كان مواليا للولايات المتحدة الأمريكية.
وبالرغم من سقوط نظام الشاه وإعلان قيام ما يسمى بـ”الجمهورية الإسلامية”، وتحول توجهات الدولة الإيرانية جذريا، إلا أن حدثا كهذا لم يكن له أن يعطل مسيرة العلاقات الناشئة بين البلدين، إذ تزامن هذا مع توجه الرئيس الصيني الجديد آنذاك، دينج شياو بنج، للتخلي عن الاعتبارات الأيديولوجية في السياسة الخارجية تماما، واتخاذ البراجماتية منهجا وحيدا، مطلقا شعاره الشهير “ليس المهم أن تكون القطة سوداء أو بيضاء فطالما كانت تمسك بالفئران فهي قطة جيدة”.
وأجبرت المصالح المشتركة كلا الجانبين على تعميق التعاون بينهما، فبكين كانت بصدد البدء في مشروع نهضتها الاقتصادية، وتحتاج إلى فتح أسواق لمنتجاتها والحصول على المواد الخام، أما نظام الجمهورية الإسلامية الناشئ فكان يعاني من عزلة دولية بعد حادثة اقتحام السفارة الأمريكية، ويحتاج أيضا لفتح نافذة تواصل مع العالم الخارجي.
ومع اشتعال حرب الثماني سنوات مع العراق، شكلت الصين موردا مهما للأسلحة لطهران، في الوقت الذي كانت القوى الغربية ترفض تزويدها بالسلاح، مع استثناء حادثة إيران كونترا من الاعتبارات القاعدية في سياق تحليل الحوادث التاريخية، إذ إن شراء إيران الأسلحة من إسرائيل جرت حوله تعقيدات متعددة، ليس هذا محل البحث فيها.
صديق المنبوذين
بمرور الوقت رسخت الصين صورتها دوليا كصديق للمنبوذين أمريكيا، وعلى رأسهم إيران، وضمت القائمة دولا مغضوب عليها ككوريا الشمالية وزيمبابوي والسودان وميانمار وغيرها، إذ عملت عقوبات واشنطن من حيث لا تحتسب علي تمهيد الطريق أمام تمدد التنين الأصفر في العالم، ففي حين نظرت الصين إلى إيران باعتبارها مصدرا رئيسا للطاقة وسوقا مهمة، لم تجد الأخيرة أمامها بديلا مناسبا للصين لتعتمد عليها في تنمية اقتصادها وتسليح جيشها.
وبعد إطلاق الرئيس الصيني شي جين بينج، مشروع الحزام والطريق عام 2013، شكلت الأراضي الإيرانية معبرا تجاريا حيويا، واحتلت مكانة مهمة في هذا المشروع العالمي، لكن العقوبات الأمريكية المختلفة على نظام علي خامنئي، شكلت قيودا على تطوير العلاقات بين البلدين، إلا أن هذا لم يمنع الصينيين من التعاون مع الجيش الإيراني سرا، وبالفعل خرقت الشركات الصينية العقوبات الأمريكية على إيران.
بطبيعة الحال أدى ذلك إلى وقوع تلك الشركات نفسها تحت طائلة العقوبات الأمريكية على إيران، وتعرض رجل الأعمال الصيني الشهير، لي فانغوي، للملاحقة، ورصدت السلطات الأمريكية جائزة مالية قيمتها خمسة ملايين دولار لمن يقدم معلومات تؤدي إلى اعتقاله، وتعقبه جهاز الإنتربول الدولي؛ لاتهامه بالمساهمة في تطوير البرنامج الصاروخي لإيران.
بعد توقيع خطة العمل الشاملة المشتركة “الاتفاق النووي” مع مجموعة (5 + 1)، عام 2015، ورفع العقوبات الأمريكية على إيران، دشن الرئيس الصيني شي جين بينج خطة علاقات تعاون موسعة بين البلدين لمدة 25 عاماً، وتضاعف التبادل التجاري بينهما، كما توسعت الاستثمارات الصينية داخل إيران، واستأنف البلدان التعاون العلني، في المجال العسكري.
الصين والعقوبات الأمريكية على إيران
مع قدوم دونالد ترامب إلى قمة السلطة في البيت الأبيض، ومحاولته إعادة التفاوض على بنود الاتفاق النووي، اتخذت الصين موقفا مضادا لهذا الاتجاه، ومع انسحاب واشنطن من الاتفاق، وفرضها الحزمة الأولى من العقوبات على طهران، في أغسطس الماضي، ضاعفت الصين من تبادلاتها التجارية معها، وعوضت جزء من الفراغ الذي خلفه انسحاب الشركات الغربية، وبذلك تعد بكين أكبر شريك تجاري لطهران، وأصبحت أكبر مصدر لها وأكبر مستورد منها.
وبالرغم من أن الصينيين ساروا في الاتجاه المعاكس، مدفوعين باحتياجاتهم المتزايدة من الطاقة، واتخذوا موقفا معارضا للعقوبات، لكنهم في النهاية آثروا مصالحهم التجارية مع الولايات المتحدة التي تتعرض للتهديد على خلفية الحرب التجارية مع واشنطن، وتوقفوا في نهاية الأسبوع الماضي عن شراء النفط الإيراني.
فقد قررت مجموعة سينوبك ومؤسسة البترول الوطنية الصينية، اللتان تعدان أكبر شركتي تكرير حكوميتين، عدم التعاقد مجددا أي نفط إيراني في الشهر المقبل، مع اقتراب حلول موعد الرابع من نوفمبر الذي من المقرر أن يشهد بدء العمل بالدفعة الثانية من العقوبات الأمريكية على إيران، والتي تشمل العقوبات على تصدير النفط، ما شكل ضربة لآمال الإيرانيين الذين عولوا على الصلابة الصينية في مواجهة الأمريكان.
إلا أن الصين لم تتخل بشكل نهائي عن نفط طهران، بل طالبت الإدارة الأمريكية، بمنحها إعفاءات على غرار الهند التي أبلغت الوفد الأمريكي – الذي زارها لإقناعها بالانصياع للعقوبات – بأن ارتفاع تكاليف الطاقة بسبب ضعف عملتها المحلية وصعود سعر النفط يعني استحالة وقف استيراد النفط الإيراني في الوقت الحالي.
وعليه تدرس الإدارة الأمريكية تدرس بجدية منح إعفاءات محدودة لبعض عملاء النفط الإيراني حتى تضخ روسيا والسعودية إمدادات إضافية في العام المقبل، مع الحد في الوقت ذاته مما يمكن أن تفعله طهران باستخدام إيرادات تلك المبيعات، إذ يجري بحث حجز تلك الإيرادات لكي تستخدم بشكل حصري لأغراض إنسانية.
وشكلت نسبة مشتريات الصين من النفط الإيراني 35 بالمئة من مجمل وارداتها النفطية، بمعدل يزيد على ثلاثة أرباع المليون برميل يوميًا، وعادة ما تستورد الهند أكثر من نصف مليون برميل يوميا من النفط الإيراني، لكنها قلصت ذلك المستوى في الأشهر الأخيرة وفقا لبيانات رسمية، كما خفضت أنقرة وارداتها بمقدار النصف بالفعل، على أمل أن تُمنح استثناء كالذي منحته لها إدارة أوباما في السابق.
كما تعتزم الصين إطلاق آلية لمواصلة تعاونها المالي والمصرفي مع إيران، عبر إنشاء مصرف متخصص لهذا الغرض، مع قرب تطبيق العقوبات الأمريكية على قطاع النفط ، وقد عقد خبراء البلدين عدة اجتماعات لبحث تفاصيله، ومن المتوقع أن يستغرق إطلاق الآلية الجديدة بعض الوقت، وقد يؤجل إلى العام القادم وفق ما أفادت وكالة أنباء الجمهورية الإيرانية.
خاتمة
عليه فإن الصين لن تتخلى بسهولة عن حليفها الإيراني في وقت يتعاظم فيه نهمها للنفط، والمواد الخام الأخرى، وإن كان شكل وحجم التعاملات سيتأثر بالعقوبات إلى حد كبير.
وفي المقابل لن يوقف الإيرانيون تعاملاتهم التجارية مع الصين، بل ستستمر ولو باتباع طرق مراوغة، وسيوظفون خبراتهم الكبيرة في التعامل مع السوق السوداء، والتي اكتسبوها خلال السنوات الماضية، الأمر الذي سيمثل استفادة متبادلة للطرفين، فالصين ستحصل على ما تريده وبأسعار أفضل في الوقت نفسه، كما سيمثل ذلك فرصة لطهران لتخفيف آثار العقوبات.