بالرغم من أن أفق مفاوضات فيينا الخاصة بمحاولة إعادة إحياء الاتفاق النووي لعام 2015 بين إيران والمجتمع الدولي بات ملبدا بالغيوم، إلا أن احتمالات التوصل إلى اتفاق ما تزال قائمة، وهو ما جعل كثيرا من مجتمع الخبراء والاقتصاديين الإيرانيين يبنون آمالهم على ما ستسفر عنه مفاوضات العاصمة النمساوية تلك التي على أساسها ستتحدد آليات إخراج اقتصاد إيران من وضعه المتردي الذي تسببت فيه العقوبات الأمريكية.
سمات الاقتصاد الإيراني
يمكن القول إن السياسة الاقتصادية للنظام الإيراني استندت دوماً منذ قيام الثورة الإسلامية على أسس ترتبط بسيادة الدولة على النشاط الاقتصادي والسعي لانتهاج مبدأ الاستقلالية عن التبعية المباشرة للغرب.
تمتلك إيران ثاني أكبر اقتصاد في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بعد السعودية، كما يتميز هيكل الاقتصاد الإيراني بوجود قطاعاتٍ رئيسةٍ منها القطاع الهيدروكربوني، والزراعة والخدمات، بالاضافة إلى الصناعات التحويلية والخدمات المالية والمصرفية.
بذلك يُعتبر الاقتصاد الإيراني هو الأكثر تنوعاً، بالمقارنة بغيره من اقتصادات الدول الأعضاء في منظمة الدول المصدّرة للنفط (أوبك)، كما تمتلك إيران 10٪ من احتياطي النفط العالمي.
لكن الاقتصاد الإيراني يرتبط بشكل أساسي بالقطاعات الأولية المتمثلة في النفط والغاز والزراعة، بينما يعاني قطاع الصناعة من التقادم، ويتطلب استثمارات ضخمة مناسبة للتحديث والتطوير.
معضلة نمو الاقتصاد الإيراني
يرى بعض المتابعين للشأن الايراني أن النمو الاقتصادي في إيران يتسم بالتذبذب الحاد، حيث لم يتجاوز المتوسِّط السنوي لنمو اقتصاد إيران خلال الأربعين عامًا المُنصرمة 1.8%، وهو معدل أقل بكثير من نظيره في دول إقليمية تتقارب مع إيران في حجم السُكَّان كتركيا أو مصر، ولا تمتلك وفرة في موارد الطاقة كإيران.
فيما يخص حصة المواطن الإيراني من الناتج المحلِّي الإجمإلى بالأسعار الثابتة، فهو أقلّ من 7 آلاف دولار في العام (حتى عام 2017) وهو بذلك أقلّ من نصف المتوسِّط العالمي، بل أقلّ ممّا كان عليه نصيبُ المواطن من الناتج المحلي في عام 1978 (أي قبل اندلاع الثورة بعدة أشهر فقط).
يتم الربط بين تراجع أو تأخر النهضة الاقتصادية، والنمو السُكَّاني الكبير، الذي شهدته إيران ما بعد 1979، حيث أسفر هذا النمو عن مضاعفة عدد السكان من 37 مليون نسمة عام 1979 إلى قرابة 84 مليون عام 2020.
كذلك يشير المحللين إلى العداء الغربي لأفكار ومبادىء الثورة الإسلامية الإيرانية، وتحديدًا من خلال الولايات المتحدة الأمريكية، التي قادت سلسلةَ عقوباتٍ دولية ضد إيران منذ قيام الثورة مما انعكس على مستوى الاقتصاد والأوضاع المعيشية اليومية.
مشروع موازنة إبراهيم رئيسي
قدم الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى البرلمان مشروع قانون الموازنة لعام 2022-2023 (على اعتبار أن السنة الفارسية تبدأ في 21 مارس 2022 وتنتهي في 20 مارس 2023) وقد عبر عن تعامل إيران مع البيئة الخارجية على حساب الظروف الداخلية كما رأى بعض المتابعين للشأن الداخلي بإيران.
وتكونت الموازنة الحكومية من جزءين، الأول: الموازنة العامة للحكومة وتشمل النفقات الحكومية والرواتب وموازنات التنمية، والثاني: يركز على الشركات والمؤسسات “غير الحكومية” التابعة للنظام، التي تشمل الحرس الثوري والجيش.
ووفقاً لمشروع الموازنة، فقد خططت إيران لخفض إنتاج النفط وإعطاء الأولوية للإنفاق الدفاعي، بسبب العقوبات والتهديدات الأمريكية الإسرائيلية المرتبطة ببرنامجها النووي، حيث أشارت وكالة “تسنيم” للأنباء إلى أن موازنة 2022-2023 تخصص حوالي 5 مليارات دولار لتعزيز القدرات الدفاعية والبحوث الاستراتيجية، أي نحو 4 مليارات دولار ارتفاعاً عن العام السابق.
افترضت الميزانية ــ أو بالأحرى الموازنة ــ المقبلة تصدير النفط بستين دولاراً للبرميل، وأشارت بعض الكتابات إلى أن الاستغناء تدريجياً عن سعر الصرف الرسمي يعتبر فكرة جيدة نظراً لأن الفجوة بين الأسعار الرسمية وأسعار السوق سمحت للأفراد القادرين على التداول بالصرف الأجنبي بتحقيق دخل غير مشروع.
كذلك تضمن المشروع خفض اعتماد الموارد العامة للحكومة على عوائد النفط وبالمقابل زيادة الاعتماد على الضرائب، وحدد مشروع الموازنة سقف تسهيلات التمويل الخارجي لمشروعات القطاعين العام والخاص بما يعادل 26 مليار يورو.
تداعيات العقوبات الأمريكية
برغم حرص المسؤولين الإيرانيين على تأكيد فشل استراتيجية الضغط التي فرضتها الإدارة الأمريكية على إيران، بل والعقوبات الاقتصادية بشكل عام، إلا أنه اتضح أن العقوبات كان لها تأثير كبير على المستوى السياسي من جوانب عدة.
يتمثل هذا التأثير في تصاعد حدة الاحتجاجات التي زادت داخل إيران بعد الخروج الأمريكي من خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي) بشكل غير مسبوق، على نحو بدا جلياً في تظاهرات نوفمبر 2019 التي اندلعت على خلفية قرار مجلس التنسيق الاقتصادي برفع أسعار الوقود والمحروقات، حيث انطلقت هذه التظاهرات من مدينة مشهد وخوزستان وبالتحديد في الأحواز.
ثم تلى ذلك الاحتجاجات التي اندلعت من مدينة الأحواز في منتصف يوليو 2021 اعتراضًا على شروع الحكومة الإيرانية في تحويل مياه الأنهار إلى المحافظات الوسطى، الأمر الذي تسبب في تدمير المحاصيل الزراعية.
هدفت السلطات الإيرانية من خلال ذلك إلى تهجير قاطني هذه المناطق من العرب، كما شهدت أكثر من 200 مقاطعة ومدينة احتجاجات للمعلمين في منتصف ديسمبر من العام الماضي والتي تتجدد حتى الآن.
وعلى المستوى الاقتصادي، نجد أن التقديرات الإيرانية تكشف عن ارتفاع معدل الصادرات النفطية من خلال عمليات التهريب التي تتم إلى الصين، إلا أن طهران تعاني من بعض القيود الهيكلية في هذا الإطار منها ضعف البنية التحتية اللازمة لتأمين الصادرات النفطية.
كما تسببت حملة الضغوط الأمريكية التي تم فرضها في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، في خروج إيران من سوق النفط العالمية، وعلى سبيل المثال لا الحصر: أدت العقوبات المشار إليها إلى تراجع حجم التجارة المتبادلة بين إيران وبين دول العالم وانخفاضه من 46 مليار دولار عام 2019 إلى 28 مليار دولار في عام 2020م.
إمكانيات التنمية الاقتصادية الرسمية
وعلى الرغم من الوضع الاقتصادي في إيران نتيجة للعقوبات المفروضة فإن هنامك توجهات رسمية مغايرة من حيث استشراف أبعاد الموقف، فالمرشد الأعلى آية الله علي خامنئي أشار إلى أنه لا ينبغي أن يتم الربط بين الاقتصاد والعقوبات.
وتنهض رؤيته على أنه من الممكن تحقيق تقدم اقتصادي رغم العقوبات الأمريكية، ويمكن زيادة حجم التجارة الخارجية والدخول في اتفاقيات إقليمية وتحقيق إنجازات في مجال النفط وغيره، إذ إن الاقتصاد هو القضية الأساسية لإيران، ومن ثم يجب اتخاذ خطوات باتجاه تنمية اقتصاد قائم على المعرفة وهو أهم مسار لتعزيز التنمية المطلوبة.
بوجه عام فإن الاقتصاد يمثل التحدي الأكبر للسلطة في إيران تلك التي تخشى من عودة الاحتجاجات التي سبق وأن اندلعت منذ عام 2017 بين الفئات ذات الدخل المنخفض والمتوسط وهي الغاضبة من تنامي الفقر.
كما تعهد الرئيس الايراني إبراهيم رئيسي بعدم ربط الاقتصاد بالمفاوضات النووية مع القوى العالمية، على الرغم من أن المحادثات قد ترفع معظم القيود الاقتصادية الأمريكية في حالة التوصل إلى إحياء اتفاق عام 2015 في فيينا.
ومن الجدير بالذكر أنه سبق وأعفت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إيران من العقوبات ما أتاح لها التعاون مع الدول الأخرى في المشاريع النووية المدنية، لكن الخارجية الأمريكية أشارت إلى أن صدور هذا الإعفاء يرجع إلى الرغبة في تمكين بعض شركاء الولايات المتحدة الدوليين من إجراء مناقشات فنية أكثر تفصيلا بحيث تساعد على تحقيق هدف عدم انتشار الأسلحة النووية.
خاتمة
وفق ما تقدم يمكن القول إن الاقتصاد الإيراني يخضع لظروف العصر القائمة على تداخل الملفات وتأثيرات الأزمات الدولية على الداخل مثلما يجري حاليا فيما يخص الأزمة الأوكرانية وانعكاستها على العديد من القضايا الاقتصادية والسياسية، لكن بوجه عام لا يمكن إنكار الدور الخارجي المنعكس بالسلب على الأوضاع الاقتصادية الإيرانية في ضوء الملف النووي الإيراني.
وكثيراً ما يلاحظ المراقبون للشؤون الإيرانية أن التصريحات الرسمية الإيرانية (ولا تختلف في ذلك عن غيرها في هذا الإطار) تتخذ دوماً طابعاً لا يعول عليه من حيث المصداقية التي تعكس الواقع وبالتالي فالثابت أن استشراف مستقبل الاقتصاد الإيراني وإمكانيات نموه المستقبلية يتصل بشكل مباشر بالتحولات التي سيسفر عنها الموقف الخاص بتطورات الملف النووي وإمكانية التوصل إلى اتفاق مقبول من كل الأطراف الفاعله في إطاره.