تعد عروض التعازي المسرحية التي تعرف في إيران باسم “تعزیه خوانی” أو “روضه خوانى” أو “شبيه خوانى”، من أهم أدوات الترويج للمذهب الشيعي، وتعد شكلا فنيا يحمل مضموناً دينياً يمس الجانب الروحاني للإنسان مساساً مباشراً ليس بالنسبة للشيعة فحسب، بل بالنسبة لأهل السنة أيضاً، خاصة وإنها تقوم على سرد سيرة آل البيت النبوي. كما توجد صلة مباشرة بين تيمة عروض التعازي والهدف الذي قامت من أجله الثورة الإسلامية في إيران، أو الشعار الذي اتخذته هذه الثورة فيما بعد، ألا وهو الثورة على “قوى الاستكبار”. فقد كانت الصورة التي خلقتها القوي الثورية لنفسها فى علاقتها بالنظام القائم آنذاك هي صورة المستضعفين في مواجهة المستكبرين.
بعد استقرار النظام الثوري في إيران ظلت هذه الصورة قائمة مع اختلاف الطرف المستكبر، حيث حلت الدول الغربية وخاصة “الولايات المتحدة الأمريكية” محل “الشاه”([1])، ومازال المرشد الأعلى للثورة الإسلامية الإيرانية على خامنئي يرفع شعار “مقاومة قوى الاستكبار” حتى الآن.
خلفية تاريخية
تعد مراسم التعازي التي يقوم بها الشيعة في العاشر من شهر المحرم من كل عام في أنحاء العالم كافة من أبرز السمات التي تميز طقوسهم الدينية عن أهل السنة، وتحتل مدينة “كربلاء” في العراق مكانة خاصة لدي الشيعة، حيث إنها ترتبط بالأحداث التي تلت وفاة الخليفة الأموي “معاوية”. وكان “الحسين” وأنصاره من آل البيت وبعض أشراف الحجاز قد رفضوا حلف يمين الولاء لـ”يزيد بن معاوية” لسوء سيرته وعدم أهليته لتولي شؤون المسلمين، فخرج الحسين وآل بيته من المدينة إلى مكة والتف حوله المعارضون لبني أمية وتوالت عليه كتب أهل الكوفة وجاءته رسلهم يدعونه للخروج إليهم ويعدونه بنصرته والالتفاف حوله ضد يزيد وأعوانه؛ فبعث الحسين إليهم “مسلم بن عقيل” ليكشف له جلية خبرهم، فنادى “عبيد الله بن زياد” وإلي الكوفة في الناس فتفرقوا، وحارب ابن عقيل منفرداً دفاعاً عن نفسه حتى وهن وحُمل إلى ابن زياد، فأمر بأن يصعد فوق القصر فضرب عنقه وألقي برأسه وأتبع رأسه جسده، ثم أرسل الرأس إلى يزيد، فكتب إلى ابن زياد يأمره بقطع الطريق على الحسين، فلما هم الحسين بالخروج إلى الكوفة نصحه الناصحون بالعدول عن هذا الأمر، ولكن الحسين أبي وعزم الخروج ولحقت به الكتب في الطريق تثنيه عن المضي، فأصر على المسير.
في مطلع عام 61هـ/ 680 م سار الحسين من شراف، فلما انتصب النهار لاحت له من بعيد هوادي خيل، فأسرع إلى جبل ذي حُسُم ليحمي به ظهره وأصحابه، فإذ بألف فارس مع “الحر بن يزيد” أرسهم “الحصين بن نمير التميمى” من القادسية للقائه، فأخبره الحسين بأنه لم يخرج إلى الكوفة إلا بعد ما وصلته كتبها ورسلها تدعوه بالقدوم والتأييد، فأخبره الحر بأنه لا يدري شيئاً عن هذه الكتب والرسل وأمره بأن يرافقه إلى الكوفة أو أن يأخذ طريقا آخر لا يُدخله إلى الكوفة ولا يُرجعه إلى المدينة، فأبي الحسين، فرافقوه حتي بلغ مشارف نينوى، وهناك أقبل راكب دفع إلى الحر بكتاب من ابن زياد يأمره فيه بالتضييق على الحسين وإنزاله بالعراء في مكان غير حصين وغير ذي ماء، فنفذ الحر ما أمر به ومنع الحسين ومن معه بأن ينزلوا بأي قرية وقطع عنهم إمدادات الماء.
بعد مفاوضات طويلة طلب الحسين من “عمر بن سعد” بأن يدعه يرجع من مكان ما أتى أو يذهب في هذه الأرض الواسعة حتي يروا ما يصير إليه الناس، فرفض واضطر الحسين إلى القتال، فجمع أصحابه وخطب فيهم وأذن لهم بالانصراف عنه، فأبوا، وكان معه 32 فارساً و40 رجلاً. ولما التقي الجمعان وقف الحسين يخطب في القوم ويذكرهم بنسبه وقرابته النبوية، ولكن من دون جدوى، فسقط أصحابه الواحد تلو الآخر، ومات ابنه “علي الأكبر” ظمآناً، واشتد العطش عليه فدنا من الفرات ليشرب؛ فرماه رجل بسهم وقع في فمه، فصاح بهم “شِمُر ذو الجوشن” أن يقتلوه، فتكالبوا عليه من كل صوب حتي خر مضرجاً بالدماء واُجتز رأسه وحُمل الرأس وسيق طفله “على زين العابدين” ونساؤه أسرى إلى يزيد في دمشق([2]).
مراسم التعازي فی إيران
يبدأ الإيرانيون مراسم التعازي في مقتل “الحسين” في الأول من شهر المحرم وتستمر هذه المراسم حتي نهاية شهر صفر، فتتشح البلاد بأثواب الحداد وتعطل الملاهي، إلا أن أشد أيام التعازي هي العشرة الأول من المحرم، حيث تقام مجالس العزاء في كل مكان وتتجمع النساء والرجال، ويقوم في هذه المجالس متكلم بليغ حسن الأداء يقص مأساة الحسين وينشد المراثي بصوت حزين ولحن منغم، فيغلب الناس البكاء وتجري دموعهم حسبة عند الله، وقد يبكي المتكلم أيضـاً من شدة الاندماج، فيزيد تأثيره فيهم، ويسمـي هذا الرجل “روضه خوان” أو “روضه خون” – كما تجري على ألسنة العامة – ومعناها “قارئ التعزية”([3]).
وأرهب أيام التعازي هو يوم العاشر من المحرم والذي يعرف عند الشيعة باسم “روز قتل” أو “يوم القتل”، حيث تخرج جموع الناس في فرق منظمة أشبه ما تكون بفرق الجنود في العرض العسكري ويسيرون في الشوارع، بعضهم يضرب الصدور ويسمون “سينه زنان”، وبعضهم يضرب الظهور العارية بالسلاسل ويسمون “زنجير زنان”، والبعض يشج الرؤوس بنوع من المدي ويسمون “قمه زنان”. ويسألون الله المغفرة بهذه الدماء السائلة من رؤوسهم وأجسادهم في سبيل الحسين. ويتقدم هذه الفرق جماعات تنشد عبارات محزنة بنغمات رتيبة على وقفاتها تضرب الصدور والظهور ويردد مقاطعها جموع الناس من بعدهم؛ فتقوم تلك الجماعات بدور النادبات في مآتمنا الشعبية ويسمون “نوحه خوان” أي “النائحون”([4]).
والحقيقة أن هذه المراسم العنيفة الدموية لم تعد تمارس بهذا الشكل حالياً في إيران، كما أن السلطات تحذر استخدام الآلات الحادة في أثناء مواكب التعازي، والسؤال الذي يطرح نفسه بشدة الآن، كيف صدرت إيران تلك المراسم المنفرة للشيعة إلى العالم أجمع، في حين أنها قد توقفت عن أدائها؟!
عروض التعازي المسرحية
كانت عروض التعازي في البداية صامتة، ثم أصبحت ناطقة، ثم صحبها الشعر والإنشاد بداية من النصف الثاني من القرن الثالث عشر الهجري (أواسط القرن التاسع عشر الميلادى) على الأرجح، حيث شهدت هذه العروض ازدهارا كبيراً في عهد الدولة القاجارية (1779: 1925م)، وحظيت بدعم الدولة وتشجيعها في عصر “ناصر الدين شاه”، ونتيجة لذلك فقد تطورت هذه العروض وأصبحت تقام بتكية الدولة بالعاصمة طهران، ومما ساعد على تطورها المساهمات المالية والعينية التي كانت تقدمها حاشية البلاط تقرباً للملك وتملقا له.([5])
والراجح أن دور ناصر الدين شاه في تطوير عروض التعازي قد جاء دون قصد منه، فبعد أول زياراته لأوروبا عام 1873م أمر بتجهيز “تكية الدولة” معمارياً لتصبح على غرار “قاعة ألبرت الملكية” Albert Hall Royal بالعاصمة البريطانية لندن، وذلك لعرض المسرحيات الحديثة بها، ولكن حين رفض الملالي المسرح الحديث، تحول المسرح الذي بناه ناصر الدين إلى تكية وقاعة لإقامة عروض التعازي.
وكانت هذه التكية عبارة عن بناء رحب ومسور من طابقين ينقسم الطابق العلوي إلى غرف متجاورة يخصص كل منها للملك وحريم القصر ورجال البلاط، وفي صحن التكية ساحة رحبة للعرض تتوسطها خشبة العرض وكانت مصنوعة من الآجر ويؤدي الممثلون أدوارهم عليها.([6])
بعد تأسيس تكية الدولة تم تشييد عدد من التكايا الأخري مثل: “نائب السلطنة ـ عضد الملک ـ صاحب اختيار ـ درخونگاه ـ دباغخانه ـ حاجي رجبعلى ـ رضا قليخان ـ سيد إسماعيل ـ كورها ـ صاحبديوان ـ خلجها ـ منوچهر خان ـ مستوفى ـ قورخانۀ کهنه ـ وسنگلخ”.
وكان لكل حي بالمدن الكبرى، كما كان لكل قرية بإيران تكية خاصة، وكانت التكية العادية مكونة من بناء مسقوف أو غير مسقوف مثل تكية “اردستان”. وتقام عروض التعازي في هذه التكايا خلال العشر الأوائل من شهر المحرم وتصل إلى ذروتها في اليوم العاشر “يوم عاشوراء”، وقد تمتد هذه العروض إلى شهرين ويتكفل القادرون من الناس بتكاليفها وبأجور الممثلين وكان الحضور مجاناً للجمهور، وفيها يتم تقديم بعض المشروبات للجمهور أيضاً. وعلاوة على هذه التكايا كانت عروض التعازي تقام في بعض البيوت، ومن أهمها بيت “الحاج مجد الدولة”، وبيت “الميزرا أبي الحسن خان ايلچى”، كما كانت تمثل أغلب الأوقات في المقابر وصحون بعض المساجد.([7])
أما أهم عناصر خشبة المسرح فهو التابوت الذي تتخلله فتحات تسمح بوضع الفوانيس بداخله، وتوضع المشاعل في مقدمة الخشبة، يليها قوس الإمام الحسين ورمحه، ويقوم بالأدوار في هذه العروض ممثلون محترفون في العروض الكبرى أو أفراد من عامة الشعب في العروض الشعبية. وقد يوفر لتمثيلها ممثلون مهرة أمثال: “الملا حسين امامخوان ـ الميرزا غلا محسين ـ عباسخوان ـ جهانگير مسلمخوان”.
بين المسرح والسياسة
يعرف مخرج العرض باسم “معين البكاء” وهو الذي تقوم مهمته على دخوله القاعة وإعطائه إشارة بدء العرض بعزف الموسيقي الملكية، ويبدأ العرض بظهور مقدم العرض ويسمى “پيش خوان” وهو عادة من المشايخ، فيتلو المراثي ويلهب حماس المشاهدين، ويليه “روضه خوان: قارئ الروضة” ومهمته سرد سيرة آل البيت وإلقاء خطبة يضمنها بعضاً من الأحاديث النبوية، ويحيط بقارئ الروضة كورال من الأطفال يؤدون دور النائحات وهو أمر لابد منه حيث لا يسمح بالظهور على خشبة المسرح إلا للرجال والأطفال الذكور، أما أدوار النساء فيؤديها رجال يرتدون ملابس النساء ويحاكون أصواتهن، ويطلق على من يقوم بدور الإمام الحسين “تعزيه خوان” أو “شبيه خوان”، ويطلق على من يقوم بدور يزيد بن معاوية “مخالف خوان”، ويطلق على من يؤدي دور السيدة زينب – وهو رجل كما سلف الذكر – “زينب خون خوان”. ويلتف المشاهدون حول خشبة العرض في دائرة أو نصف دائرة ويشاهدون فصول المأساة الدامية وهم يبكون.([8])
إلى جانب تلك العروض التي كانت تقام في تكايا الدولة، هناك عروض أخري “سيارة” يتم تقديمها في الحدائق والطرقات العامة، حيث يتحرك موكب حزين بين صفوف المتفرجين وتتحرك معه مشاهد العرض في تتابع مستمر، ويعرض كل منها صورة واقعة من وقائع المأساة، فيلتهب حماس النظارة. وقليل من الممثلين من كان يقبل القيام بدور “مخالف خوان” فقد يتعرض أحياناً للفتك من قبل المتفرجين في ذروة انفعالهم الشديد بمشاهد المأساة، لذا فإن الممثلين الذين كانوا يؤدون دور “يزيد” أو أي من أعداء آل البيت، غالباً كانوا يحرصون على عدم إتقان أدوارهم أو على البكاء على ضحاياهم حتي يأمنون على أنفسهم من انفعال المشاهدين.([9])
من أهم مشاهد العروض السيارة الموكب المفجع الذي يحمل الطفل “زين العابدين” ولد الحسين والنساء والرأس إلى يزيد بن معاوية، ومبيت الموكب “بدير نصراني”، ونطق راهبة بالشهادتين عند رأس “الحسين”، ويقال إن أحسن فرقة لتمثيل هذه المسرحية السيارة كانت فرقة “الحاج محمد رضا”.([10])
ظل هذا الشكل المسرحي مستمراً حتي آواخر العهد القاجارى، حيث بلغ قمة ازدهاره، إلا أنه بدأ منذ ذلك الحين في التراجع أمام الشكل المسرحي الغربي الحديث وغدا قاصراً على الاحتفالات الدينية الشعبية. وبعد قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م اتخذت حكومة الثورة موقفاً معادياً من كافة أشكال الفنون الغربية ومن بينها المسرح الغربي بشكله الحديث، وكان من الطبيعي أن تبذل الدولة قصارى جهدها لإحياء مسرح التعازي باعتباره شكلاً فنياً قومياً يمثل صميم العقيدة الشيعية ويساير حركة الإيعاز الديني التي واكبت الثورة. وعلى هذا النحو كانت الظروف مهيأة لعودة مسرح التعازي بقوة ليحل محل المسرح الغربي في إيران.([11])
خاتمة ونتائج
على هذا النحو جسدت عروض التعازي في إيران الجوهر السياسي للنظام الحاكم في البلاد على أساس ديني منذ العام 1979م، وعمل رجال الدين الشيعة الذين تقلدوا السلطة في الأربعين عاما الأخيرة، على تعميقها، وعليه توصلت تلك الدراسة إلى عدد من النتائج ومنها:
أن تيمة عروض التعازي تبرز الصراع الأبدي بين قوى الخير أو الضعفاء وقوي الشر أو الجبابرة.
غدت تلك العروض واحدة من أهم وسائل تصدير المذهب الشيعي والترويج له في ثوب درامي يحرك مشاعر جميع المسلمين لما لاقاه الحسين وآل بيته من محن وأهوال.
تبدو القضية للوهلة الأولى قضية دينية، لكن قام الإيرانيون باستغلالها لترسيخ دعائم مذهبهم الخاص، ولكنها في الحقيقة قضية سياسية تلاعب بها رجال الحكم في إيران لصرف الناس عن قضاياهم الحياتية الأساسية وخدمة مصالحهم الشخصية.
ـــــــــــــــــ
[1]. عبد الوهاب علوب، المسرح الإيرانى، مراجعة وتقديم: محمد السعيد جمال الدين، القاهرة، مركز الدراسات الشرقية، 2000م، ص 30.
[2]. ابن الأثير، الكامل في التاريخ، المجلد الرابع، بيروت، دار صادر، 1979م ، ص 46: 91، والطبرى، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، المجلد الخامس، القاهرة، دار المعارف، 1963م ، ص 400: 477.
[3]. أمين عبد المجيد بدوى، القصة في الأدب الفارسى، بيروت، دار النهضة العربية، 1981م ، ص 377.
[4]. من مشاهدات الأستاذ الدكتور “أمين عبد المجيد بدوى” أثناء زيارته لإيران (المرجع السابق ، ص 378).
[5] عبد الوهاب علوب، المسرح الإيرانى، ص 18.
[6]. یحیی آرین پور، از صبا تا نیما، جلد اول، تهران، انتشارات زوّار، چاپ اول، 1374ش، هامش رقم 2ص 223.
.[7] أمين عبد المجيد بدوى، القصة في الأدب الفارسى، ص 378، 379.
[8]. یحیی آرین پور، از صبا تا نیما، جلد اول، ص 322، وهامش رقم 1 و2 ص 223، وأمين عبد المجيد بدوى، القصة في الأدب الفارسى، ص 379، وعبد الوهاب علوب، المسرح الإيرانى، ص 20.
[9]. أمين عبد المجيد بدوى، القصة في الأدب الفارسى، ص 379، 380، وعبد الوهاب علوب، المسرح الإيرانى، ص 20، 21.
[10]. أمين عبد المجيد بدوى، القصة في الأدب الفارسى، ص 379، 380.
[11]. عبد الوهاب علوب، المسرح الإيرانى، ص 28.