في الوقت الذي يتلقى فيه النظام الإيراني الضربة تلو الأخرى من دول الغرب، ويواجه مشروعه التوسعي مقاومة واسعة من الدول العربية، ينشط عملاء الحرس الثوري داخل دول مجموعة الآسيان، في بث الدعاوي الطائفية البغيضة بين المجتمعات السنية في أرخبيل جنوب شرقي آسيا، من دون أن تلقى عنتا ومقاومة كالتي تجدها في أي مكان آخر.
وفي الأعوام الماضية ارتفعت صادرات إيران إلى الدول الأعضاء باتحاد جنوب شرقي أسيا بما قدره 90 بالمئة، بحسب ما أعلنه المدير العام للمكتب التجاري لأسيا والمحيط الهادئ بموسسة تنمية التجارة أمير طالبي، الذي قال إن صادرات إيران إلى دول الأسيان بلغت نحو 855 مليون دولار، وهو ما يعكس النمو المطرد في العلاقات بين طهران وتلك المجموعة الأسيوية المهمة.
ففي إندونيسيا التي تضم قرابة الأربعين بالمئة من تعداد سكان دول الآسيان العشر، استطاعت الأذرع التخريبية الإيرانية، تثبيت أقدامها ونغز مخالبها، في أنحاء الدولة المترامية الأطراف، مستغلين مواهبهم، في نشر التشيع بين السكان، الأمر الذي ترتب عليه إثارة عدد من الاضطرابات المذهبية في بلد كان يشتهر تاريخيا بنموذجه الديني المفرط في التسامح والتعايش.
أما ماليزيا التي ظلت دهرا طويلا قلعة منيعة عصية على المد الشيعي، ومعقلا لمنهج الاعتدال والوسطية، تحت حكم حزب الامنو، فإنها بدلت موقعها بعد نجاح تحالف الأمل في الانتخابات البرلمانية التي عقدت في مايو الماضي، ووجهت الحكومة الجديدة أنظارها إلى طهران، وبدأت في تحويل دفتها في هذا الاتجاه، فتم إلغاء مشروع مركز الملك سلمان للسلام الدولي، والذي كان من المفترض أن يتولى قيادة جهود مكافحة الإرهاب في منطقة الآسيان، والانسحاب من عضوية بلاده في التحالف الإسلامي.
وفي الجزر الفلبينية تنشط الشبكات التي يديرها الحرس الثوري في عمليات استقطاب أبناء الأقلية المسلمة لاسيما في جنوبي البلاد، وتقدم البعثة الدبلوماسية الإيرانية مِنحاً تعليمية، ولها علاقات قوية مع عدد من الوسائل الإعلامية المحلية، وقد قطع نظام الملالي، علاقاته مع جبهة تحرير مورو، التي تمثل مسلمي الجنوب وتتمركز في جزيرة مندناو ذات الأغلبية المسلمة، بعدما لم تتجاوب مع أجندته المذهبية، وصار الاعتماد اليوم على العلاقات الرسمية بين مانيلا وطهران، فهناك تعاون كبير بين المؤسسات التعليمية في البلدين، إذ يتم تبادل الأساتذة والطلبة والخبرات، وباتت الجامعات الحكومية تضم أقساما للغة الفارسية.
وقطعت إيران في الأشهر الأخيرة شوطا كبيرا في توطيد نفوذها بين مسلمي تلك المنطقة؛ فقد وقَّع وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، في الثاني من أغسطس الماضي، الوثائق المتعلقة بانضمام إيران إلى معاهدة الصداقة والتعاون لرابطة دول الآسيان، والتي تعد بمثابة منتدى اقتصادي، يتيح توسيع التبادل التجاري بين الدول الأعضاء به.
وفي ميانمار أو دولة بورما التي يرتكب نظام الحكم العسكري بها أبشع المذابح وينفذ حملات التطهير العرقي بحق مسلمي الروهينجا تقوم إيران باستغلال تلك المأساة الإنسانية لمحاولة نشر التشيع بين مسلمي الروهينجا الذين يتبعون المذهب السني، وتقوم إيران بإرسال المساعدات لهم، في مدينة كوكس بازار الحدودية مع دولة بنجلاديش نظير تحولهم من المذهب السني إلى المذهب الشيعي، وهو ما رصدته البعثة الصحفية التي رافقت الأزهر الشريف في تلك المدينة في نوفمبر من العام الماضي.
وفي المقابل تجد المملكة العربية السعودية نفسها، بحكم مسؤوليتها ومكانتها في العالم الإسلامي، مضطرة لتتبع الدور الإيراني في جنوب شرقي آسيا، وتعكس تحركات الرياض في التعامل مع المستجدات الأخيرة في تلك المنطقة، واقعية في الأداء، من خلال مجاراة التغييرات السياسية في دول الآسيان.
فقد جاءت جولة وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، الشهر الماضي، والتي زار خلالها جاكرتا وكوالامبور، لتؤكد وعي الرياض بأهمية تلك المنطقة، والرغبة في المحافظة على جسر التواصل مع هذه الدول، وعدم ترك فراغ قد يتسلل منه أصحاب المشاريع الإقليمي التخريبية.
وبالفعل تمتلك الدول العربية أدوات مهمة للتأثير في دول الآسيان تستطيع من خلالها دعم الفكر المعتدل واحتواء التأثير الإيراني، وتبدو الظروف مواتية، في ظل انشغال طهران بالعقوبات الأمريكية، وموجات الاضطرابات الداخلية، بعكس المرحلة التي أعقبت توقيع الاتفاق النووي في 2015، حين كانت طهران في قلب نشوة النصر الدبلوماسي، الأمر الذي انعكس على أذرعها الخارجية في شرقي آسيا.