تتجه كل الأنظار للحدود الأوكرانية ــ الروسية حیث يحتشد أكثر من مئة ألف جندي روسي على أهبة الاستعداد لإطلاق أولى طلقات العملية العسكرية علی بعد کیلومترات، لیس في أوروبا فقط ولکن أیضًا في الشرق الأوسط، حيث يأمل الجميع أن تحول الدبلوماسية من دون وقوع الحرب.
لکن مرورًا بما حدث في أوروبا الشرقية منذ أربعة عشر عامًا، تقودنا هذه الأحداث إلى نتائج جديرة بالاهتمام، فلقد بدأت لعبة فلاديمير بوتين في قصر الكرملين، ولكن ليس من أجل الحرب بالدرجة التي يتحدث بها نظيره الأمريكي في البيت الأبيض، وإنما من أجل معركة محددة الأهداف، بالضبط كما حدث في جورجيا عام ٢٠۰۸م.
اقرأ أيضا:
بالطبع هذه المرة ربما على نطاق أوسع. وفي هذه الأثناء فإن الخبر السار هو أنه لا يزال من الممكن الحيلولة من دون وقوع حرب أخرى قبل إطلاق الرصاصة الأولى، طالما أن الغرب بشکل عام والولایات المتحدة الأمريكية بشكل خاص لا يغيران الكروت الموضوعة على طاولة المفاوضات.
إذن فالحرب محتملة الوقوع كالسلام لو أُطلقت الرصاصة الأولى، سيكون بوتين المسؤول عن أرواح جميع الضحايا وكل الأضرار الناشئة عنها باعتباره رئيس الجمهورية الروسية وهو من يمكنه نزع فتيل الحرب.
لكن لا يمكن صرف النظر عن مسؤولية قادة الغرب، وهم غير مستعدين للمواجهة الكاملة للشمولية[1] من خلال طاولة المفاوضات.
علی مدی العقود الثلاثة الماضية كان القادة الأوروبيون يحركون كروت اللعبة وفقًا للمصالح السياسية، ومن ثم تم تجاهل مواقف الحکومات الأضعف من ضمنها روسیا، ولقد وصلوا في الوقت الراهن إلي النقطة التي لا يرون فيها موسكو فقط بل يرون بكين أيضًا أمامهم.
وبناءً على ذلك، لحل الأزمة الأوكرانية ينبغي على الولايات المتحدة الأمريكية من جهة وروسيا من جهة أخرى تقديم امتيازات للطرف الآخر، وقبول البنود التي تقل عن مطالبهم القصوى.
في مثل هذه الأوضاع، إذا كان بايدن وحلفاؤه الأوروبيون يعتقدون أن بوتين يخادع فقط ولن يشعل فتيل الحرب في النهاية، فلن يقدموا أية امتيازات. لکن بالنظر إلى مغامرة بوتين عام ٢٠٠٨م، والتحقيق في كيفية تنظيم الأحداث الأخيرة، سندرك جيدًا أن الحقيقة عكس كل الأحاديث المسموعة من قصر الكرملين، ومن الواضح أن بوتين يستعد للعبة جديدة في أوكرانيا.
مضى أساس الصراع بین روسیا وجورجيا منذ أن قدم رئيس الجمهورية آنذاك من خلال قمة الناتو في براغ طلبًا لانضمام تفليس إلي حلف الناتو بشكل رسمي في نوفمبر عام ٢٠٠٢م.
وبعد عام بتشجيع ودعم من الكرملين، طلب الانفصاليون المدعومون من روسيا في أوسيتيا الجنوبية[2]، وأبخازيا[3] من موسكو الاعتراف بهم كدولة مستقلة بشكل رسمي.
وقد قبلت موسكو الطلب سالف الذكر، وأصدرت على الفور جوازات سفر روسية لسكان هذه المناطق، وقد أعلن حلف الناتو رسميًا في إبريل عام ٢٠٠٨م أن أوكرانيا وجورجيا ستتمتعان بعضوية هذه المؤسسة؛ ما دفع موسكو إلي رد فعل سريع.
وبعد شهر واحد فقط توجهت قوات حفظ السلام الروسية إلى جورجيا، وأجرت مناورة كبرى، وعلى غرار ما يحدث الیوم بالضبط وقبل البدء في المعركة الرئيسة، بدأت الجهود الدولية التي لا حصر لها لقمع مثيري الحرب.
لكن بمجرد انتهاء المناورة، بدأت موسکو حملتها بالادعاء أن القوات الجورجية هاجمت قوات حفظ السلام والمواطنين الروس، وقد صرح الرئيس الروسي حينذاك، دميتري ميدفيديف قائلًا: “الكرملين ليس لديه خيار سوى التدخل و حماية مواطنيه”.
ومنذ عام ٢٠١٤م كان بوتين يسعى جاهدًا لإبعاد أوكرانيا عن الناتو على الدوام، وفي الخطوة الأولى له منح الجنسية لسكان لوغانسك[4] ودونيتسك[5] الروس، كما ضم شبه جزيرة القرم إلى الأراضي الروسية، وحذر مرارًا وتكرارًا من أن عضوية كييف في الناتو خط أحمر، ولن يسمح لأي شخص بتجاوز هذا الخط.
في الوقت الحالي يتم سرد القصة نفسها على حدود كييف، من خلال استنفار الجنود الروس وتعبئة آلاف القوات الجوية، البحرية، والقوات الخاصة إلى مستوى غير مسبوق منذ انهيار الاتحاد السوفيتي شاهد على أن بوتين لن يسمح لأحد بتجاوز الخط الأحمر الذي رسمه.
لكن ليست هذه كل الوقعة، فالقادة الانفصاليون في أوكرانيا يزعمون أن هناك هجمات وشيكة الحدوث ضد المواطنين الروس في دونباس[6]، ومن الممكن في أي لحظة أن تدعي روسيا مرة أخرى أنه لا حيلة لديها سوى التدخل بحجة الحفاظ على مواطنيها.
بوتين الآن بصدد تحقيق العديد من المطالب الرئيسة منها: عدم توسع حدود الناتو نحو الشرق، وتراجع الناتو إلى الحدود عام ١٩٩٧م، والحد من وجود أسلحة هجومية بالقرب من الحدود الروسية.
في الوقت نفسه، يدرك جيدًا أن الناتو لن يتراجع على الإطلاق عن حدود عام ١٩٩٧م، لكن تحقيق المطلبين الرئيسين ليس بعيد المنال؛ لأن الفرصة الوحيدة الباقية لأوروبا للحيلولة من دون وقوع الحرب هو التناوب السياسي، وقبول الحد الأدنى لمطالب الكرملين.
بالتأكيد الأمر الأكثر أهمية بالنسبة لبوتين من عضوية كييف في الناتو هو خروج أوكرانيا بهدوء من تحت سيطرة الهيمنة الروسية، ففي العقدين الماضيين لم تتوجه هذه الدولة الي الغرب فقط، بل تتمتع بالدعم الكامل من جانب الدول الأوروبية.
والرئيس الروسي فلاديمير بوتين كذلك على إطلاع جيد بهذا الموضوع، وفي الوقت نفسه يعرف أن غزو واحتلال جزء صغير من أوكرانيا سيؤدي إلي إقامة دولة على حدودها ستظل في حرب دائمة مع روسيا.
ومن ناحیة أخري يدرك بوتين أن أوكرانيا على الرغم من أهميتها الاستراتيجية بالنسبة لموسكو، إلا أنها لم تلعب دورًا رئيسًا بالنسبة لأوروبا على الإطلاق؛ ومن ثم فإن لديه خيارات أخرى مطروحة على الطاولة غير الحرب، والتي تتمثل في الاعتراف الرسمي بلوغانسك ودونيتسك، وهو ما يعد بمثابة تهديد جاد للسلامة الإقليمية في كييف.
أظهر الرئيس الروسي حتي الآن أنه لن يدخل في صفقة غامضة، والوضع الحالي يصب في مصلحته ليس فقط من خلال المجال الدبلوماسي، بل في ساحة المعركة أيضًا، ومن المرجح أن تنتهي المناورة العسكرية الروسية قريبًا، وتتناسب الظروف الجوية لهجوم مدرع من قبل القوات الروسیة.
يجب أن نری هل ستتخذ الولايات المتحدة وزعماء الغرب موقفًا سلبيًا مرة أخرى على أمل وقوع نتيجة مختلفة عما كان عليه الحال عام ٢٠٠٨م، أم سيراقبون خدع الكرملين، أم سيتحدون من أجل التصدي لبوتين؛ الأمر الذي لو وقع لن يؤدِ إلي مواجهة الحدود الأوروبية لصراع جاد فقط، بل سيجعل الصين أيضا أكثر إصرارًا على احتلال تايوان.
وفي الشرق الأوسط البلاد يدخل الغرب ساحة المعركة لامتلاك النصيب الأكبر من كعكة القوة، علی عکس أهداف بوتين المحددة للحرب في أوكرانيا التي يمكن تصور نهايتها.
ــــــــ
[1] الشمولية هو مفهوم مستعمل من قبل علماء السياسة لوصف الدولة التي تحاول فرض سلطتها على المجتمع، وتعمل على السيطرة على كل جوانب الحياة الشخصية والعامة قدر إمكانها. / المترجمة.
[2] أوسيتيا الجنوبية هي جمهورية مستقلة معترف بها رسميًا فقط من قبل روسيا الاتحادية، فنزويلا، نيكاراغوا، ناورو، توفالو، وسوريا. / المترجمة.
[3] أبخازيا هي منطقة متنازع عليها تقع على الساحل الشرقي للبحر الأسود، أعلنت استقلالها عن جورجيا عام ١٩٩١م مما تبعه من الصراع الجورجي ــ الأبخازي. وهي جمهورية مستقلة عن جورجيا، إلا أنها لا تحظى باعتراف دولي سوى من روسيا، نيكاراغوا، فنزويلا، وسوريا. / المترجمة.
[4] جمهورية لوغانسك الشعبية هي جمهورية معلنة من طرف واحد في ٢٧ أبريل عام ٢٠١٤م من قبل ناشطين ومحتجين سياسيين ناطقين باللغة الروسية. / المترجمة.
[5] جمهورية دونيتسك الشعبية هي جمهورية معلنة من طرف واحد في ٧ أبريل عام ٢٠١٤م من قبل نحو ١٠٠ شخص معظمهم من الناشطين والمحتجين السياسيين الناطقين باللغة الروسية. / المترجمة.
[6] دونباس منطقة ثقافية واقتصادية وتاريخية تقع في شرقي أوكرانيا، وقد اشتهرت المنطقة باستخراج الفحم من المناجم. / المترجمة.
_____________________
مادة مترجمة عن صحيفة “شرق” الإصلاحية الإيرانية، بعنوان “و هنوز گلولهای شلیک نشده است”، أو “ولم يتم إطلاق الرصاص بعد” نشرتها “مریم جعفری“، يوم دوشنبه ۲۵ بهمن ۱۴۰۰ ش. هـ. الموافق الإثنين 14 فبراير 2022.