المتتبع للشأن العراقي عامة، وحركة الاحتجاجات التي انطلقت في وسط وجنوبي العراق منذ أكتوبر الماضي على وجه الخصوص، وتحديدا في المناطق الشيعية وضد الحكومة التي تسيطر عليها غالبية شيعية ذات صبغة دينية يجد أن الحاجة أصبحت ماسة للتفكير وللتساؤل في ماهية هذه المعادلة بين المجتمع والسلطة وبين إيران ووكلائها في بغداد بعد مقتل قاسم سليماني.
صراع بين النجف وقم
فالواقع يشير إلى أنه لا يمكن عزل هذا الموضوع عن الصراع الديني الخفي الذي يدور بين حوزتي قم والنجف، إذ تعتبر مدينة النجف من أقدس الأماكن عند الشيعة كونها تضم مرقد الإمام علي رضي الله عنه، وكذلك الحوزة العلمية التي تضم أهم المراجع الشيعية في العالم. وبديهيا من يسيطر على النجف يسيطر على القرار الشيعي ليس على مستوى العراق فحسب بل على مستوى العالم الإسلامي الشيعي.
مع ذلك فإن دخول أتباع السيد مقتدى الصدر تارة مع المتظاهرين وتارة ضد التظاهرات نفسها التي وقف معها منذ البداية يجعل المشهد يخرج من الصراع السياسي إلى الصراع الديني لينتقل إلى داخل حوزة النجف ومن يسيطر عليها بعد غياب المرجع الديني الأعلى آية الله علي السيستاني.
في ضوء كل تلك الاعتبارات تدرك القيادة السياسية والدينية الإيرانية أهمية الصراع داخل حوزة النجف وأهمية إنهاء دورها من خلال تحويل مدينة النجف إلى بيئة غير آمنة يهجرها كبار رجال الدين والمراجع وتصبح لا قيمة لها ولا تأثير في القرار الشيعي وهو ما تسعى إليه إيران خاصة أن الأخيرة تواجه ضغوطا غير طبيعية على المستوى الدولي والإقليمي والداخلي مع تمرد شعبي شيعي على الحكومة التي نصبتها في العراق وقيام المتظاهرون باقتحام قنصليتها.
علاقة مقتدى الصدر بإيران
ولعل كل هذه الأحداث المرتبطة بعضها مع بعض ووجود السيد مقتدى في قم وبأمر منه اقتحم الآلاف من أتباعه ساحة الصدرين في النجف لغرض إنهاء التظاهرات مخلفة عشرات القتلى ومئات الجرحى وحرق خيمهم ويجعل من النجف ساحة لتصفية الحسابات وقد يكون رجال الدين في مقدمتهم مثلما حدث أواخر القرن المنصرم.
وكما هو معلوم فإن حوزة قم تعاني الكثير من الضعف وذلك بسبب القدسية والتأثير التي تتمتع بها حوزة النجف كما أن كبار مراجع الشيعة قد تتلمذوا على أيدي علماء تخرجوا في هذه الحوزة؛ لذلك تجد أن علماء الشيعة في إيران يشعرون بالخطر الكبير ما دام القرار الديني يقع خارج سيطرتهم وقد دخل المرشد الأعلى في الكثير من الصراعات الخفية والعلنية مع رجال الدين في حوزة النجف.
بناء على ما تقدم يمكن القول إن اختيار مدينة النجف من قبل أتباع التيار الصدري للاشتباك مع المتظاهرين يؤكد أن الصراع في النجف سيتحول قريبا إلى صراع ديني حوزوي قد يؤدي إلى انفلات العقد في هذه المدينة وسينتقل إلى كل المناطق التي يوجد فيها الشيعة في العراق خاصة أن والد الزعيم مقتدى محمد صادق الصدر سبق أن دخل هذا الصراع مع المراجع غير العرب وأدى هذا الصراع في النهاية إلى اغتياله مع ولديه في العام ١٩٩٩ كما سبق ذلك مقتل عدد من المراجع غير العرب.
إيران بعد سقوط صدام حسين
لكن إيران بعد سقوط النظام البعثي في العام ٢٠٠٣ سارعت إلى السيطرة على قيادات هذا التيار من أجل ضمان أغلبية شيعية داخل العراق تدين بالولاء لها وعدم تمرد أفرادها على سلطة الولي الفقيه وعلى الرغم من كثرة الشعارات التي رفعها أتباع مقتدى ضد الجمهورية الإسلامية إلا أن لدى التيار الصدري قيادات تمنعه من الذهاب بعيدا عن الأهداف التي تسعى إيران إلى تحقيقها.
لكن الأمور بعد مقتل قاسم سليماني اختلفت كثيرا مع السيد مقتدى، إذ كثر وجوده في قم وتكليفه بمهام جديدة منها ارتباط كل الميلشيات به من خلال ما يسمى بالمقاومة الدولية كما أنه تزعم مشروع إخراج القوات الأمريكية من العراق وكذلك المشاركة في إدامة الزخم من أجل إخراج القوات الأمريكية وتبنى تكليف علاوي بتشكيل الحكومة مع العلم بأنه مقرب من طهران وهو بهذا يلعب الدور الذي كان يلعبه سليماني في العراق.
كل هذه المؤشرات تدل أن رجل إيران في العراق سيكون مقتدى الذي تكفل هو وأتباعه بإنهاء التظاهرات وإضعاف دور الحوزة من خلال سيطرة أتباعه على المشهد الأمني والسياسي داخل المدينة المقدسة وما أحداث الأمس في النجف إلا مقدمة لمشروع إيراني من أجل بسط النفوذ والسيطرة على الحوزة العلمية في النجف والذي تسعى إليه إيران منذ مئات السنين.
خاتمة
لذلك كله ـ ومعه حزمة أخرى من الأسباب ـ جاءت خطبة المرجعية هذه المرة تختلف عن سابقاتها ونددت ـ مستخدمة أشد العبارات قسوة ـ بالاستهداف المنظم للمتظاهرين وخاصة في محافظة النجف ودعت إلى أن تكون مسؤولية حماية ساحات التظاهر من قبل القوات الأمنية حصرا وطلبت الابتعاد عن الأدوار التي تقوم بها الفصائل المسلحة بذريعة حماية المتظاهرين التي لا تنفذ إلا حالات الخطف والقنص والاغتيال.