لا تقتصر تداعيات حرب الاثني عشر يومًا على الجانب العسكري والأمني فقط، بل تمتد إلى قضايا جيوسياسية كبرى، وعلى رأسها دبلوماسية المياه والعلاقات العابرة للحدود المائية بين إيران وجيرانها فيما يتعلق بالموارد المشتركة، إذ إن صمود إيران خلال حربها مع إسرائيل، واحتفاظها باستقلالها في مواجهة الهجمات الخارجية، قد يدفع بعض دول الجوار إلى تعزيز التفاعل معها، خاصة في ملف المياه، إلا أن بعض الدول الأخرى ذات العلاقات الواسعة مع أطراف منخرطة في الحرب، قد تتبنى نظرة أمنية متزايدة تجاه إيران باعتبارها طرفًا غير متوقع السلوك وصعب الوثوق به على غرار الموقف الغربي.
اقرأ أيضا:
أما داخليا، فمن المحتمل أن يصبح موقف إيران من ملف المياه أكثر أمنية بعد الحرب، وأن يُعاد تعريف الموارد المائية العابرة للحدود، مثل أنهار هلمند، واراس، وهري، باعتبارها بنى تحتية تتصل بالأمن القومي، وتتطلب اهتمامًا أكبر، وقد يؤدي ذلك إلى تقليص مرونة إيران في المفاوضات المائية، وتشديد تمسكها بحقوقها المائية، ولذلك اتكأت إيران على المحددات الهيدروإستراتيجية Hydrostrategy من حيث المخططات والسياسات طويلة الأمد في إدارة مواردها المائية، وخاصة في السياقات الجيوسياسية والأمنية بعد حرب الأيام الاثني عشر يوما مع إسرائيل في يونيو 2025.
بشكل عام، من المرجح أن تتأثر دبلوماسية المياه الإيرانية مع كل من أفغانستان، وتركيا، والعراق، وأذربيجان بتداعيات الحرب على النحو التالي:
أولًا: آفاق دبلوماسية المياه مع أفغانستان
تتشارك إيران وأفغانستان في حوضي هلمند وهري، وتحتل إيران في كليهما الموقع الأدنى من مجرى النهر، ويُتوقع أن تتصرف أفغانستان بحذر واستقلالية أكبر من ذي قبل منتهجةً سياسة تركّز على تعزيز مشاريعها المائية في كل من الحوضين، مع اهتمام أقل بحقوق إيران المائية، ومن المرجح أن تستغل الصين الفراغ الذي خلفته سيطرة طالبان، عبر الاستثمار في البنى التحتية المائية، كمنافس للهند، ولتوسيع نفوذها الأمني في أسيا الوسطى.
في المقابل، قد تنخرط باكستان في “اللعبة المائية” بأفغانستان؛ بهدف كبح النفوذ الهندي، والاستفادة من الوضع الجديد، بدعم من علاقتها الوثيقة بالصين.
ولمنع الوصول إلى سبيل مسدودة في دبلوماسية المياه مع أفغانستان، خصوصًا في ظل الظروف الراهنة، يمكن لإيران أن تتبنى عددًا من إستراتيجيات تفعيل قنوات غير رسمية مع النخب والعرقيات المؤثرة في أفغانستان، لا سيما الطاجيك والهزارة، وهو ما يمكن أن يعرف بدبلوماسية المسار الثاني، وتقديم حوافز تشمل تجارة الكهرباء، والمواد الغذائية، والوقود، مقابل تنظيم عادل لتقاسم مياه هلمند وهري إلى جانب إحياء دور المنظمات الإقليمية والدولية كوسطاء فنيين، خصوصًا تشجيع الصين وباكستان، اللتين تربطهما علاقات جيدة مع إيران، على أداء دور إيجابي وبنّاء في دبلوماسية المياه، بدلًا من دعم المشاريع المائية الأحادية لأفغانستان.
ثانيًا: آفاق دبلوماسية المياه مع تركيا
تتشارك إيران وتركيا في حوض نهر اراس العابر للحدود، وتقع إيران في موقع أدنى منه، وبعد الحرب، تنظر تركيا إلى إيران كقوة إقليمية أكثر تأثيرًا، ولكن أيضًا كمنافس محتمل، وبالرغم من استمرار العلاقات التجارية؛ إلا أن تركيا قد تتبنّى مقاربة أمنية وتنافسية وأكثر حذرًا تجاه الحدود، والمياه، والجغرافيا السياسية في المنطقة.
ومن المحتمل أن تستخدم تركيا ــ في المستقبل ــ أدوات مثل اللاجئين الأفغان، أو الطاقة، أو المياه، كوسائل ضغط إقليمية، وقد تسعى، مستغلةً تراجع الاهتمام الإقليمي بملف المياه، إلى تسريع مشاريع بناء السدود في حوضي اراس ودجلة ــ الفرات.
وربما تطمح أنقرة إلى الهيمنة المائية وقيادة المنطقة مائيًا، من خلال تقويض دبلوماسية المياه الإيرانية عبر تعزيز نفوذها في العراق لإقصاء إيران من مفاوضات المياه المشتركة، واستغلال ضعف ثقة الحكومة العراقية بمستقبل العلاقة مع إيران لتوسيع مشاريع المياه الثنائية أو الثلاثية مع العراق وسوريا، أو حتى فرض رقابة فنية ومائية مشددة على حوض اراس، وتوقيع اتفاقيات مائية جديدة مع أذربيجان تؤثر في حصة إيران من مياه هذا النهر.
اقرأ أيضا:
كما أن إحياء دبلوماسية مياه نشطة ومتعددة المستويات مع تركيا يمكن أن يتضمن تفعيل القنوات الدبلوماسية الرسمية وغير الرسمية، واقتراح عقد اجتماعات ثلاثية بين كل من إيران وتركيا والعراق، لحوض دجلة ــ الفرات، ورباعية بين كل من إيران وتركيا وأذربيجان وأرمينيا لحوض آراس، فضلا عن تعزيز أدوات المراقبة الفنية والهيدرولوجية للسيول، وانخفاض تدفق الأنهار الحدودية، لاستخدامها كأدلة تفاوضية.
إلى جانب ما سبق يمكن توسيع التعاون المائي مع دول المصب في حوضي دجلة ــ الفرات وآراس، لمواجهة الهيمنة التركية، وقد تعزز العلاقات الدبلوماسية مع الصين وروسيا والمنظمات الدولية لزيادة الثقل الفني والقانوني لإيران.
ثالثًا: آفاق دبلوماسية المياه مع العراق
يتشارك العراق وإيران في حوض دجلة ــ الفرات، وتقع إيران في الموقع الأعلى من مجرى النهر، وبعد الحرب الإيرانية ــ الإسرائيلية، قد يجد العراق نفسه بين قوتين متنافستين، وهما إيران وتركيا، وسيسعى للتوازن بين علاقته التاريخية والدينية مع إيران، وحاجته الحيوية إلى تأمين تدفق المياه عبر التعاون مع تركي.
ولتحقيق هذا التوازن، قد يتبنى العراق سياسة مزدوجة وحذرة تجاه إيران، سواء بتوسيع التعاون الفني والسياسي للحفاظ على تدفق المياه المشتركة.
يرجح أن تواصل بغداد التشاور حول الأنهار العابرة للحدود، وتحديد حصة العراق من نهر الزاب الصغير، مع الضغط لتثبيت حقوقه المائية في نهرَي الكرخة وكارون، اللذين يدعي انخفاض تدفقهما، من أجل المطالبة بحصص مائية أكبر في الأحواض المشتركة، استنادًا إلى دوره خلال الحرب وكون إيران شريكًا إستراتيجيًا، قد تدفع باتجاه إحياء ملف شط العرب (يسمى في إيران بالفارسية: أروند رود) ضمن اتفاقيات أمنية ــ حدودية، وليس فقط في الإطار البيئي.
ونظرًا لأزمة المياه الحادة في العراق، فإن أي انخفاض إضافي في تدفق المياه من إيران، خاصة من الكرخة أو الزاب الصغير، قد يؤدي إلى أزمات اجتماعية واحتجاجات واسعة، وبينما قد تتعامل إيران مع ملف المياه بمنظور أمني، فإن العراق سيتبنى مقاربة مطالبات مدفوعة بحاجات شعبه.
وللحفاظ على دورها في دبلوماسية المياه مع العراق، يمكن لإيران استخدام أدوات سياسية، مثل الجماعات المقربة منها، لتلطيف الأجواء التفاوضية، والامتناع عن إنكار انخفاض تدفق المياه، وبدلًا من ذلك، تقديم تفسيرات قائمة على نماذج إدارة المياه الجديدة والتكيف المناخي، إلى جانب تشجيع العراق على توجيه مطالبه المائية نحو تركيا، وتقديم نفسها كشريك فني وبنّاء، وإعطاء الأولوية لمشاريع البنية التحتية المشتركة، مثل محطات المراقبة، وشبكات الإنذار المبكر من الفيضانات، ومشاريع النقل المائي بين الأحواض.
رابعًا: آفاق دبلوماسية المياه مع جمهورية أذربيجان
تتقاسم إيران وجمهورية أذربيجان حوض نهر اراس، ويقع كل من البلدين في موقعَي وسط وأدنى مقارنة بتركيا، وفي أعقاب الحرب، من المرجّح أن تتعاون أذربيجان مع تركيا و”إسرائيل” – التي تربطها بها علاقات وثيقة – لتنفيذ مشاريع مائية مشتركة في حوض اراس، مثل بناء السدود، ومراقبة المياه، وتحويلها، وتخصيص الموارد.
اقرأ أيضا:
وقد تساعد “إسرائيل” أذربيجان باستخدام تقنيات حديثة في إدارة المياه، كالري الذكي، وتحلية المياه، والإدارة المتقدمة، وهذا قد يقلص من الدور الفني الإيراني في هذه المشاريع، ويستبدله بتأثير إسرائيلي.
ومع توسع مشاريع أذربيجان المائية، خاصة في المناطق المحررة مؤخرًا في قره باغ، قد تُوجّه اتهامات رسمية أو إعلامية لإيران باستخدام غير قانوني أو احتكاري للمياه المشتركة، خصوصًا فيما يتعلق بمشاريع نقل المياه إلى سهول اراس، وسكان تبريز، وبحيرة أرومية، وهي انتقادات طُرحت سابقًا بصورة غير رسمية، وقد تلجأ أذربيجان إلى المحافل الدولية، كاتفاقيات هلسنكي وآليات الأمم المتحدة الخاصة بالمجاري المائية الدولية، لتقديم شكاوى ضد إيران.
وفي حال تراجعت دبلوماسية المياه في حوض اراس، ستقوي إيران تعاونها مع أرمينيا، وزيادة حضورها في مشاريع المياه في المنبع داخل الأراضي الأرمينية، أو ستسعى لتحويل فائض المياه الأرمينية إلى إيران، لتعويض أي فراغ مائي محتمل في الموقعَين الأوسط والأدنى من الحوض، بالإضافة إلى استخدام المنظمات الإقليمية أو التعاون الثلاثي مع أرمينيا وجورجيا ضمن حوض كورا–اراس الأوسع، لموازنة الضغوط المائية المحتملة.
ومن الواضح أن هذه الإجراءات تُعد خطوات مؤقتة تهدف إلى تعزيز دبلوماسية مياه متعددة الأطراف في جنوبي القوقاز، إلى حين عودة الأطراف إلى طاولة المفاوضات، وضمان حصة عادلة لإيران والدول الأخرى.
خاتمة
جملة القول إن التحولات الهيدرودبلوماسية الإقليمية بين إيران وجيرانها باتت تتبلور ضمن إطارٍ أمني، لا سيما في ضوء حرب الاثني عشر يوما، وبناء عليه، فإن معالجة أزمة المياه الإقليمية لم تعد مسألة تتعلق بقرار إيراني بشأن حدود إستراتيجيتها المائية فحسب، بل أصبحت مرتبطة أيضا باعتبارات الأمن القومي، في ظل تفاقم أزمة المياه التي باتت تهدد السلم الداخلي لإيران.