تخضع العلاقات السياسية بين الدول أيا كان موقعها على خريطة النظام الدولي لمزيج من المصلحة والمبادئ الحاكمة لفكر الدولة سواء كانت معتقدات دينية، قومية، أو أيديولوجية، ويتغير قوام هذا المزيج تبعا لمستوى الدول التي تربط بينها العلاقات والتفاعلات السياسية، ولكن تظل القاعدة ثابتة حتى وإن تجاوزت المصلحة النسبة المخصصة للعقيدة في بعض الأحوال التي تكون فيها الدول الكبرى طرفاً فاعلاً، والأمثلة واضحة في هذا السياق لكل ذي عين ولا تحتاج لمزيد من الإيضاح.
تسعي هذه السطور إلى تناول موجز للعلاقة بين إيران وبين لبنان باعتبارها نموذجا لنمط العلاقات سالفة الذكر حيث يلعب الطابع العقائدي والديني دوراً ملحوظا وإن كان ينطوي بطبيعة الحالة على عنصر المصلحة السياسية للطرفين.
الصراع العربي ـ الإسرائيلي والدور الإيراني في لبنان
مما لا شك فيه أن الصراع العربي ـ الإسرائيلي يُمثل ركيزة سياسية وفكرية تتصل اتصالا وثيقا بالدور الإيراني في لبنان من حيث علاقة إيران بالدولة اللبنانية والأهم والأكثر دلالة علاقة إيران بحزب الله.
”
يمثل لبنان وضعية خاصة بالنسبة لإيران لأسباب كثيرة أهمها أن لبنان هو البلد العربي الذي نجحت في اختراقه بشكل قوي من خلال حزب الله والذي يُعتبر ركنا أساسيا من أركان المواجهة مع إسرائيل.
“
ولقد سبق وصرحت مصادر إيرانية رسمية عديدة عن اهتمام إيران بدعم لبنان والمقاومة اللبنانية في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية، فإيران تعتبر نهج حزب الله نهجاً كفاحياً مشروعاً لكنها تؤكد في الوقت ذاته (ولو من الناحية الرسمية) أنه لا قدرة لديها على الضغط عليه أو التدخل في شئونه وأن علاقة إيران الأساسية هي مع الدولة اللبنانية.
دور إيران في تأسيس حزب الله
ترتبط العلاقة الثنائية بين إيران وبين حزب الله بالدور الإيراني المباشر في تأسيس الحزب في مطلع ثمانينيات القرن العشرين ودعمه سياسيا وعسكريا وإعلاميا طوال مرحلة مقاومته المسلحة للاحتلال الإسرائيلي في الجنوب اللبناني حتى الانسحاب دون شروط عام 2000، ولقد عزز هذا الانسحاب من موقف إيران الداعم للمقاومة.
على سبيل المثال: سبق وأن صرح السيد كمال خرازي وزير خارجية إيران الأسبق في حوار مع صحيفة انتخاب (29 مايو 2000) أنه بالرغم من التحولات التي حدثت في جنوب لبنان – أي الانسحاب الإسرائيلي – فلن تتبدل سياسة طهران تجاه عملية السلام.
وبنى الرجل فكره على أن إيران منذ البداية لم تقبل هذا السلام وتعتبره غير عادل ولم تعتقد يوما أنه سيرد حقوق الفلسطينيين أو لبنان.[1]
لبنان حلقة في سلسلة تمدد النفوذ الإيراني
يُعد الدور الإيراني في لبنان بمثابة حلقة من حلقات التمدد الإيراني في المنطقة العربية ومن هنا ينشأ عامل المصلحة السياسية القوية، والترابط العضوي بين إيران وبين حزب الله الذي تجلى في مواقف عديدة على مستوى الدعم الإعلامي والمؤسسي بالإضافة إلى الدعم السياسي والعسكري المتعارف عليه.
“
للدلالة على ما سبق يمكن الإشارة إلى إرسال إيران عبر البوابة السورية صفقات التسليح للحزب التي تُقدر بملايين الدولارات كي يكون شوكة قوية على الأرض اللبنانية وورقة ضغط على النظام السياسي اللبناني للاستجابة للمطالب الإيرانية عند اللزوم.
“
في المقابل يرى بعض المحللين أن إيران استفادت من نشأة حزب الله من خلال التمكن من تحسين شعبيتها أمام بعض أبناء المجتمع السني تحت مزاعم الدفاع عن الأراضي العربية في مواجهة إسرائيل إذ ساعد حزب الله على ظهور إيران بمظهر الدولة التي تواجه القوى الاستعمارية.
من جهة ثانية الدور الذي لعبه الدعم الإيراني للحزب في تقوية أسس المشروع الشيعي في المنطقة[2] بالإضافة إلى توظيف العلاقة مع حزب الله في صياغة الدور العسكري الذي تمارسه إيران في الشرق الأوسط.
كما يمكن القول إن دعم إيران للحكومة اللبنانية والرئيس اللبناني، يتم تفسيره في سياق مدى قبول الجهات الرسمية اللبنانية أو تحفظها على الدور الذي تلعبه إيران في لبنان. على سبيل المثال: قيام وزير خارجية إيران جواد ظريف بزيارة لبنان منذ سنوات قليلة بعد فوز ميشيل عون برئاسة هذا البلد.
وقد ارتبطت هذه الزيارة بالتأكيد على دعم إيران للرئيس اللبناني، وهذا يعني ضمناً أنه لن يقف أمام النفوذ الإيراني في لبنان، وذلك في ضوء تركيز إيران على أهمية استقرار الأوضاع في لبنان وانعكاس ذلك على مصلحة إيران وعلى أمنها.[3]
العلاقات الاقتصادية والمعارضة للدور الإيراني في لبنان
عرضت إيران استعدادها في 15 يوليو من عام 2020 لاعتماد الليرة اللبنانية في عمليات التبادل التجاري بين البلدين وتحديداً في مجال النفط، علاوة على إعلان إيران حيازتها مشروعات ومساعدات تنموية في مجالات الكهرباء والمياه والزراعة والدواء وغيرها من الأمور الاقتصادية لمساعدة لبنان.
”
بوجه عام يمكن القول إنه يجري العمل بين البلدين على إعطاء دفعة لمسار العلاقات الاقتصادية فيما بينهما والتي تصب في المصالح البينية المشتركة وإن كانت ـ بدون جدال ـ أقل تأثيرا على مجريات الموقف في الشرق الأوسط إذا ما تمت مقارنتها بالعلاقات السياسية والعسكرية فيما بين إيران وبين حزب الله.
“
مع ذلك يرى التوجه الرافض للدور الإيراني أن لبنان يعاني من تفاعل الصراع الأمريكي ـ الإيراني في المنطقة والصراع العربي ـ الإيراني بوجه عام، وأنه كلما قوي هذا الصراع، كلما زادت المعاناة للشعب اللبناني.
يدخل في هذا الإطار الاعتراضات التي ثارت على تشكيل الحكومة اللبنانية التي تضم أطرافا متحالفة مع حزب الله وتدور في فلك السياسة الإيرانية المناهضة للعرب في المنطقة على حد زعمهم.[4]
خاتمة
يمكن القول إن إيران تُركز على الهوية الدينية الشيعية تحديداً بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية وتعتمد على مكون الثقافة والدين وفي داخلهما الهوية الإسلامية كجزء من ممارسة القوة الناعمة في الشرق الأوسط والمنطقة العربية، ولكن تبقى المصلحة السياسية هي العامل الحاكم والموجه ولن تخرج إيران في سلوكها وتوجهاتها عن السلوك الدولي والدوافع الذاتية للدول التي تحكمها المصلحة والمكاسب السياسية التي يمكن أن تجنيها من تبني أفكار ومبادئ سياسية معينة.
”
ولعل من يعارض الدور الإيراني في المنطقة عامة ولبنان خاصة يرى أن دافع المصلحة هو الوحيد والمبدأ ما هو إلا واجهة تُعبر بها الدولة عن نفسها وتنطلق من خلالها نحو تحقيق أهدافها.
“
لكن تتطلب الرؤية التي تتسم بقدر من الحياد أن نفترض مزيجاً وإن كان متفاوتا كما سبقت الإشارة ـ في الغالب من الأحوال ـ بين العقيدة والمصلحة مع اعتقاد أنه من الإنصاف أن تتم المساواة في تقييم دوافع إيران بدوافع الولايات المتحدة على سبيل المثال والدول الاستعمارية في الماضي.
فالسياق الدولي ومكانة الدول وقدرتها على النفاذ المباشر والسيطرة لا تُقارن ولا يسهل التعميم فيما بين النماذج والأمثلة بصورة أقرب إلى التبسيط المُخل، ويبقى لنا ألا ننكر تنامي الدور الإيراني برغم معارضة بعض الجهات والقوى السياسية، ولكن يتطلب دوما الحكم على سلوك الدول بعضا من الإنصاف والعقلانية في الإدراك من دون الاستسلام لنظرية المؤامرة ولا افتراض أحكام عامة ترقى ببعض الدول إلى مرتبة المُبشرين ودعاة الإصلاح.
ــــــــــــ
[1] سالي نبيل شعراوي، العلاقات المصرية ـ الإيرانية بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، القاهرة، العربي للنشر والتوزيع، 2019، ص ص 136-137.
[2] الدور الإيراني في المعادلة اللبنانية المؤشرات والدلالات، المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، 16 نوفمبر 2016.
[3] أسامة سيد رمضان، أحمد الشاذلي محمد، العلاقات الإيرانية ـ اللبنانية في ضوء الوجود الشيعي في لبنان، 2020، المركز الديمقراطي العربي.
[4] معروف الداعوق، تفعيل العلاقات اللبنانية ـ العربية مرتبط بإخراج لبنان من دائرة الهيمنة الإيرانية، 2020.