مع انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي، رفض الاتحاد الأوروبي السير في الطريق نفسها التي سار فيها دونالد ترامب، وأعلنت أغلب دول أوروبا دعم إيران في مواجهة الإجراءات الأمريكية والعقوبات التي فرضت منها حزمتين في أغسطس ونوفمبر من العام الماضي، بل وحاولت أوروبا إيجاد وسيلة أو آلية مشتركة تضمن بها سريان التعامل التجاري بين دول أوروبا وطهران من خلال الالتفاف على العقوبات الأمريكية، وهو الاتفاق الذي لم يدخل حيز التنفيذ حتى تلك اللحظة، خاصة بعد التهديدات الأمريكية بفرض عقوبات على كل المتعاملين مع طهران، أذ كان هذا الدعم الأوروبي هو ما تعول عليه طهران، واعتبرته ظهيرًا لها في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية.
وبعد مرور نحو تسعة أشهر على الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، حاولت طهران أن تراهن على علاقاتها مع دول أوروبا، التي حاولت هي الأخرى الالتفاف على العقوبات الأمريكية، إلا أن ذلك الرهان لن يدوم طويلًا ويمكن معالجته من خلال الاعتبارات التالية:
أولا: تلكؤ أوروبا في إطلاق التعامل بالآلية الخاصة «SPV»
ففي الوقت الذي أعلنت فيه دول أوروبا عن إطلاق آلية خاصة للتعامل التجاري مع إيران، لم تدخل تلك الآلية حيز التنفيذ رغم المطالبات المتكررة لطهران لتفعيلها، ورفضت ألمانيا وفرنسا وبريطانيا استضافة مكتبا لها خشية العقوبات الأمريكية، فيما حاول الاتحاد الأوروبي الضغط على لوكسمبورج لاستضافتها إلا أنها رفضت أيضًا، عقب رفض النمسا لها كذلك، وهو ما جعل إيران تهدد أوروبا مؤخرًا على لسان علي أكبر صالحي، رئيس هيئة الطاقة الذرية الإيرانية، حين حذر أوروبا بأنه في حال عدم وفائها بالتزاماتها تجاه بلاده فيما يخص تخفيف العقوبات الأمريكية، ستكون هناك تطورات لن تسعد أوروبا أو أعضاء الاتفاق النووي.
ثانيا: سياسة الاغتيالات على الأراضي الأوروبية
في الوقت الذي يوجد فيه العديد من رموز المعارضة الإيرانية في عدد كبير من البلدان الأوروبية، بدأ النظام الإيراني في محاولة استهداف عدد من رموز المعارضة على الأراضي الأوروبية وأبرزهم رموز حركة مجاهدي خلق، ورموز حركة النضال العربي لتحرير الأحواز، وغيرهم، وهو ما دعا الحكومة الألبانية إلى طرد السفير الإيراني وأحد دبلوماسي السفارة بسبب تورطهما في التحضير لعمليات قالت تيرانا إنها إرهابية، كما تزايدت الدعوات لفرض عقوبات غير مسبوقة ضد النظام الإيراني منذ محاولة تفجير مؤتمر منظمة “مجاهدي خلق” المعارضة في فرنسا، وكذلك محاولة اغتيال ناشطين من حركة النضال العربي لتحرير الأحواز في الدنمارك، فضلًا عن اغتيال إيران القيادي في الحركة نفسها أحمد مولى في مدينة لاهاي الهولندية، كما اضطرت السلطات الفرنسية إلى إيقاف دبلوماسيين إيرانيين تورطوا في هجوم دبره النظام الإيراني ضد تجمع سنوي يدعمه المجلس الوطني للمعارضة الإيرانية، في مدينة “فيلبنت” في ضواحي باريس.
وفي بلجيكا ينتظر أحد الدبلوماسيين الإيرانيين، ويدعى أسد الله أسدي، المحاكمة على ذمة قضية تورطه في قنبلة لاثنين من عملاء النظام لقيامهما بتفجير في المؤتمر السنوي للمقاومة الإيرانية في باريس، والأمر نفسه في هولندا، حيث تم ترحيل دبلوماسيين نتيجة هجوم إرهابي العام الماضي ضد المعارضة.
وحاولت أوروبا تهدئة النظام الإيراني خلال اجتماع عقده مسؤولون أوربيون – «فرنسيون وبريطانيون وألمان ودنماركيون وبلجيكيون وهولنديون» ـ بمقر وزارة الخارجية الإيرانية في منتصف يناير الجاري، إذ طالبوا النظام الإيراني بالتوقف عن العمليات الإرهابية بحق المعارضين في أوروبا وكذلك وقف تطوير البرنامج الباليستي والصاروخي لإيران، وهو الاجتماع الذي كان يسبق فرض أوروبا عقوبات على طهران تتعلق بتجميد أصول وحظر سفر على الحرس الثوري الإيراني وعلى إيرانيين يطورون برنامج الصواريخ الباليستية لطهران، ورغم رمزية تلك العقوبات إلا أنها تأتي في سياق الضغط على إيران بجانب الضغط الأمريكي عليها.
ثالثا: برلين تسير في طريق واشنطن
كانت ألمانيا أبرز الدول الأوروبية التي اتخذت مسارًا مخالفًا لكثير من دول أوروبا فيما يخص الأزمة الإيرانية، ففي الوقت الذي بدأ الامتعاض الأوروبي من طهران على وقع حملة الاغتيالات وتطوير المنظومة الباليستية، كانت ألمانيا تجري لقاءات مع الجانب الأمريكي لاتخاذ مواقف محددة تجاه طهران تمثلت في عدة أوجه أبرزها:
أ ـ في شهر أكتوبر الماضي التقى وزير خارجية ألمانيا مع نظيره الأمريكي في واشنطن، وأبلغه أن ألمانيا تشارك الولايات المتحدة الأمريكية في أهدافها تجاه إيران، وبذلك تعتبر ألمانيا أول دولة أوروبية تعلن تخليها رسميًا عن دعم إيران في مواجهتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، إذ تتخوف برلين من برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني وتعتقد أن على طهران الانسحاب من سوريا، كذلك عرقلت قواعد مكافحة غسيل الأموال التي اقترحها البنك المركزي الألماني عملية استعادة الأموال الإيرانية في البنوك الألمانية، خاصة بعد الطلب الإيراني بسحب مئات الملايين من الدولارات الموجودة في مصارف ألمانية، والتي تقدر بـ300 مليون يورو بما يعادل 347 مليون دولار، وكانت متحدثة باسم وزارة المالية الألمانية كشفت في يوليو الماضي، أن السلطات تدرس الطلب الإيراني، لسحب 300 مليون يورو من حسابات مصرفية في ألمانيا وتحويلها إلى إيران.
ب ـ ألغت ألمانيا تصريح التشغيل الخاص بشركة الطيران الإيرانية “ماهان إير”، موضحة أن ذلك يعود لأسباب تتعلق بالسلامة وللاشتباه في أن الشركة تستخدمها طهران لأغراض عسكرية، وشكت السلطات الألمانية في أن الشركة المدرجة على قائمة العقوبات الأمريكية منذ 2011، تستغل من قبل الحرس الثوري الإيراني لأغراض عسكرية وأنشطة “إرهابية” أيضا، خاصة في المسألة السورية.
رابعا: فرنسا تهدد بعقوبات غير مسبوقة على إيران
هددت باريس طهران بفرض عقوبات غير مسبوقة على وقع تصميم إيران على تطوير منظومة البرنامج الصاروخي الباليسيتي، في الوقت الذي بدأت فيه فرنسا مفاوضات جادة مع الجانب الإيراني لإقناعه بالتخلي عن قدرات طهران الصاروخية، مهددة بفرض عقوبات إضافية في حالة إذا لم تشهد هذه المفاوضات تطورًا حقيقيًا في هذه المسألة، هذا بالإضافة إلى الاتهامات التي وجهتها السلطات الفرنسية لجهاز الاستخبارات الإيراني بالتخطيط لاعتداء قرب باريس تم إحباطه، كان يستهدف في يونيو الماضي تجمعًا لمعارضين إيرانيين، إذ قررت فرنسا عقب ذلك فرض عقوبات على مصالح إيرانية في فرنسا، فيما دعت طهران بدورها باريس إلى الحوار.
قبل هذا الإجراء كانت فرنسا قد جمدت أصولًا وأموال تابعة للمخابرات الإيرانية والحرس الثوري وإدارة الأمن في وزارة الاستخبارات الإيرانية، وذكرت الخارجية الفرنسية أن باريس جمدت أصولاً مالية لفردين إيرانيين وأصولاً مملوكة للمخابرات الإيرانية، قبل أن تدهم الشرطة الفرنسية مقر مركز “إسلامي” ومنازل أعضاء بالمركز في شمالي فرنسا.
الخلاصة
مجمل القول أن المراقب للتعامل الأوروبي مع المسألة الإيرانية يعلم أن ما تقوم به دول أوروبا من دعم لإيران عقب الانسحاب الأمريكي أحادي الجانب من خطة العمل الشاملة المشتركة “الاتفاق النووي” مجرد موقف مؤقت وسرعان ما ستعود أوروبا وتسير في الطريق نفسها التي سبقها إليها دونالد ترامب لعدة أمور أهمها:
1 ـ أن دول أوروبا لا يمكن أن تستغني عن استثماراتها في السوق الأمريكية التي تعد أكبر سوق تنافسية في العالم مقارنة بالسوق الإيرانية.
2 ـ أنه في عرف السياسة الدولية والاقتصاد العالمي فإن الشركات هي التي تحكم وليس الدول، وبالتالي لا يمكن أن تضغط أوروبا على شركات معينة لضمان بقائها في الداخل الإيراني في ظل ظروف صعبة وإجراءات قاسية تعرقل عملية الاستثمار.
3 ـ خشية الشركات والدول الأوروبية أيضًا من العقوبات الأمريكية التي قد تطولها ما إذا تعاونت مع الجانب الإيراني.
4 ـ رفض طهران طلبات الدول الأوروبية بتجميد تطوير إيران لمنظومة الصواريخ الباليستية ووقف تهديد المعارضة الإيرانية المتواجدة في أوروبا.
5 ـ تأخر أوروبا في تطبيق منظومة الآلية الخاصة «spv» التي ستمكن أوروبا من التداول تجاريًا مع طهران، وهو الأمر الذي أزعج السلطات الإيرانية مؤخرًا، وأدى إلى تصريحات تصعيدية بين الطرفين سرعان ما تحولت إلى تهديدات أوروبية بفرض عقوبات على طهران قد تزيد من تأزم الموقف الإيراني الداخلي والخارجي على حد سواء.