شهدت المدن الإيرانية عاصفة من الاحتجاجات بعد موت الشابة الإيرانية الكردية “مهسا أميني”، التي توفيت بعد احتجازها من قبل “شرطة الإرشاد” الإيرانية يوم 16 سبتمبر 2022، على إثر ذلك عادت قضية الحجاب الإجباري وعنف رجال الشرطة ضد النساء الإيرانيات إلى المشهد الإعلامي بمستوييه المحلي والدولي، ولعل تحليل المشهدين الداخلي والخارجي يعطي فكرة عن شكل الحملة الغربية الممنهجة للضغط على النظام الإيراني في الظرف الراهن.
انقسام إعلامي بعد مقتل مهسا أميني
في أعقاب مقتل مهسا أميني انقسم الإعلام الإيراني إلى شقين متعارضين حول سبب وفاة الشابة الإيرانية. الأول: تمثل في الإعلام الإيراني الرسمي، الذي كشف عن التقرير الطبي لمستشفى “كسرى” ومفاده أن “مهسا أميني” لم تظهر عليها علامات ضربٍ أو اعتداءٍ، وموتها كان بسبب سكتة قلبية مفاجئة، كذلك أوضح سجلها الطبي أنها كانت تعاني من ورم في الدماغ منذ أن كانت في عمر الخامسة، وأصيبت بعدها بمرض السكري.
الثاني: تمثل في إعلام المعارضة الإيرانية الذي كشف دخولها في غيبوبة نتيجة إصابة شديدة في الدماغ، ومن ثم فارقت الحياة، تلك الروايتان المتناقضتان لا يمكن الجزم بصحتيهما، نظرًا للتخبط الإعلامي الراهن.
لكن يمكن اعتبار موت “مهسا أميني”، شرارة في حلقة جديدة ضمن سلسلة اللعبة الغربية لمعاداة النظام الإيراني داخليًا وخارجيًا، من خلال تأجيج موقف قوى المعارضة الإيرانية، وإتاحة الفرصة لتعرية النظام من هيمنته وقدرته على التحكم في زمام الأمور، إلى جانب نشر الشائعات لتحفيز المواطنين على النزول والوقوف في وجه نظام الحكم. حتى تحولت المظاهرات السلمية المطالبة بإلغاء إلزامية ارتداء الحجاب ومحاسبة الضالعين في تعنيف النساء، إلى أعمال شغب وتدمير للمنشآت الحكومية وموت مزيدٍ من الضحايا.
تأجيج الداخل الإيراني ليس بالجديد
في عام 2018، أطلق نجل شاه إيران رضا بهلوي مشروعًا باسم “ققنوس”، بهدف دراسة مشاكل إيران في مختلف المجالات، وتقديم حلول عملية وعلمية من أجل “إعادة إعمار إيران”. وذلك بالاستعانة بالخبراء والمتخصصين الإيرانيين في حقبة ما بعد “انهيار الجمهورية الإسلامية”، وفق تصوره.
هذا المشروع اعتبره موقع “راهبرد معاصر” المؤيد لرئيسي في مقالة تحليلية بعنوان “مهسا أميني، رمز الخداع ضد إيران”، بمثابة مؤامرة تتجاوز الأهداف المعلنة، إذ يسعى إلى تحقيق مساعي أخرى خفية تتمحور حول النقاط الآتية:
ــ جمع كل المعارضين للجمهورية الإسلامية تحت قيادة رضا بهلوي بعد حالة التشتت وعدم وجود موقف موحد لهم؛ لتشكيل مركزية موحدة لهم.
ــ استقطاب النخب الإيرانية وتأسيس مؤسسات غير ربحية من أجل التأثير على المجتمع الإيراني.
ــ استقطاب الموارد المالية الجديدة من المنظمات التابعة لأمريكا والنظام الصهيوني.
ــ خلق جو نفسي في المجتمع الإيراني، والتأثير على الرأي العام.
ــ تحريض الشعب، وخلق انقسامات اجتماعية وعرقية.
مع هذا، فشل ذلك المشروع منذ بدايته؛ بسبب التناقضات الهيكلية والأيدلوجية. الأمر الذي دفع بعض الأشخاص، أمثال الصحفية الناشطة “معصومة مسيح علي نجاد” بالتركيز على المواضيع الخاصة لبلبلة الوسط الإعلامي.
أحد تلك المواضيع “مشروع ققنوس” المعنيّ بالتأثير على الرأي العام وبخاصة النساء في موضوع “الحجاب الإلزامي والاختياري”. وعليه اصطنعوا أزمات لدعم موقفهم، مثل حركة “الأربعاء الأبيض” واشتباك فتيات غير ملتزمات بالحجاب مع ضباط الشرطة ثم تصوير تلك الاشتباكات وإرسالها إلى مسيح علي نجاد لصنع مادة إعلامية مثيرة للجدل.
ما وراء الاحتجاجات الأخيرة
يرى الإعلام الأصولي المحافظ، أن معارضي الجمهورية الإسلامية اتخذوا من “مهسا أميني” رمزًا “لمشروع ققنوس”، بل وجعلوها محورًا للانتفاضة الإعلامية والمجتمعية، بهدف تهميش ذكرى الأربعين حيث تزامن مشروع “مهسا أميني” بأربعينية الحسين، وهو الحدث الذي تفخر فيه الجمهورية الإسلامية بالتجمعات الشعبية المؤيدة للنظام والثورة. لهذا ركزت القوى الإعلامية لوسائل الإعلام الفارسية الناطقة بغير الفارسية على تلك القضية، لتصبح تلك القضية بعد أيامٍ قليلة تتصدّر نشرات الأخبار المحلية والدولية.
ولا شك أن بعض الجهات الأجنبية استفادت من تحويل بوصلة التركيز على نتائج مسودة إحياء الاتفاق النووي وتعنت إيران، إلى وحشية رجال الجمهورية الإسلامية في التعامل مع المتظاهرين.
هذا بدا واضحًا في الفيديوهات المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، والتي أظهرت وحشية تعامل قوات الشرطة مع المتظاهرين، لخلق حالة من الرعب والكره في المجتمع الإيراني. وهذا الأمر ليس بجديد، فخلال السنوات القليلة الماضية أجريت اختبارات نفسية وإعلامية مكثفة؛ من أجل استجواب الشرطة الإيرانية وغرس صورة قاسية لها في أذهان المواطنين.
إلى جانب تهميش عضوية إيران في منظمة شنغهاي للتعاون، وهو خبر لم يناقش في وسائل الإعلام، على الرغم من أنه يعد إحدى المحاولات الإيرانية في مضمار كسر طوق العقوبات الاقتصادية الأمريكية والغربية المفروضة عليها منذ خروج الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من الاتفاق يوم 8 مايو 2018.
كما يمكن اعتبار تهميش مشاركة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في الاجتماع الـ77 للجمعية العام للأمم المتحدة، والذي لم يلق ترحيبًا من بعض المسؤولين الأمريكيين أحد أسباب التضخيم الإعلامي للاحتجاجات، علاوة على أنها رد غير مباشر لما يمكن أن يتمخض عن التهديد العلني.
وبخاصة بعد تهديد رئيسي خلال كلمته أمام الجمعية العامة ورفعه صورة قاسم سليماني، وتهديده بالانتقام ممن اضطلعوا في اغتياله. كذلك يبدو أن إعلان رئيسي موقف الجمهورية من حيازة أسلحة نووية، وتأكيده على الضمانات التي طالبتها إيران خلال ردها على مسودة إحياء الاتفاق النووي بالتزام الولايات المتحدة بأي اتفاق نووي يتم التوصل إليه، لم يلق قبولًا أو حتى تصديقًا. وإلا لما استماتت أوروبا في دفع إيران إلى العودة إلى طاولة المفاوضات، وإبرام اتفاق نووي يقيد أنشطتها النووية.
خاتمة
جملة ما أعلاه، أن العاصفة الإعلامية الغربية الحالية، وتحريض القوى الشعبية الداخلية ضد النظام الإيراني، وحملة الإدانات الدولية بعد مقتل مهسا أميني، ما هي إلا سيناريوهات مخطط لها سلفًا لأهدافٍ سياسية، تسعى من خلالها القوى الغربية إلى رفع مستوى الضغط ضد نظام الجمهورية الإسلامية. وإلا لماذا التزمت وسائل الإعلام الغربية الصمت بشأن موت “شير رسولي” التي ألقت بنفسها من الطابق الثاني للدفاع عن نفسها؟! ولماذا صمت الغرب حيال موت “ميترا أوستاد” التي قتلها رئيس بلدية طهران الإصلاحي “محمد علي نجفي”؟! وهنا تبدو الإجابة سهلة عن السؤال الصعب: لماذا جعلت وسائل الإعلام الغربية من موت “مهسا أميني” شرارة الانتفاضة الراهنة ضد النظام الحالي؟!